فتحت الثورات العربية فى تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا العديد من الملفات التى كانت قبل هذه الثورات فى حكم المسكوت عنه، مثل ملف الفساد وملف التعذيب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والمواطن العربى، وكذلك ملف إهدار المال العام، واستئثار القلة بالثروة الوطنية والسلطة، وحرمان الأغلبية الساحقة من المواطنين من الحقوق الدنيا للحياة والمواطنة. ومن بين تلك الملفات العديدة التى ظهرت إلى حيز النور، يبدو ملف الهوية العربية من أهمها وأكثرها إثارة للجدل؛ خاصة مع تصدر قوى الإسلام السياسى المشهد السياسى الراهن فى العديد من الدول العربية التى قامت فيها الثورات ضد النظام القديم. ولا شك أن ملف الهوية من الملفات القديمة الجديدة فى الفكر السياسى العربى، فهو مطروح منذ فترة طويلة وتحت أسماء مختلفة، مثل: من نحن ومن هم؟ والتجديد والتقليد والحداثة والموروث، والأصيل والوافد، والحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. ورغم اختلاف وتباين هذه الأسماء من زاوية الإطار الفكرى والسياسى الذى تصدر عنه وكذلك من زاوية المنظور الذى تنتظم فيه هذه الأسماء، فإن العنصر المشترك فيها جميعاً يكاد يكون هو هاجس البحث عن الهوية وتعريف الذات الجماعية فى مواجهة الآخرين وتجاوز التخلف واللحاق بالنهضة. وإذا كان التعريف المبسط للهوية الفردية هو أنها ما يميزنى عن غيرى، فإن الهوية الجماعية هى ما يميز جماعة عن أخرى، ذلك أن الهوية تتحدد فى مواجهة الآخرين والغير، وترتيباً على ذلك فإن الهوية العربية تتحدد على ضوء اشتراك العرب فى التاريخ والثقافة ويجمعهم نظام لغوى من أكثر أنظمة اللغة صرامة فى العالم، وأن هذه اللغة قد تطورت بحيث أصبح ثمة مستوى لغوى يستطيع العرب أن يتفاهموا من خلاله أياً كانت مواقعهم وهو مستوى الفصحى، وذلك نقيض نواة اللغة اللاتينية التى تطورت فى اتجاه وجود لغات مستقلة ذات أصل واحد فى أوروبا مثل اللغة الفرنسية واللغة الإسبانية واللغة الإيطالية، وفضلاً عن ذلك فإن الحضارة العربية الإسلامية قد مثلت للعرب ولغيرهم من الأقوام التى دخلت فى الإسلام سقفاً حضارياً جامعاً وإرثا مشتركاً يساهم فى تحديد أنماط الحياة والثقافة والسلوك بدرجة ما. بصعود الإسلام السياسى تدخل معركة الهوية مرحلة جديدة وتواجه تحدياً صعباً، حيث إن هناك من يرى ضرورة العودة إلى الأصول والسلف الصالح وتطبيق الشريعة الإسلامية من أجل استعادة الهوية المفقودة والحفاظ عليها وتنقيتها من الشوائب التى لحقت بها من جراء تقليد أنماط الحياة الغربية والاقتباس من الحضارة الغربية الحديثة. أمام الهوية العربية طريقان، الأول منهما طريق الانسحاب والانغلاق والعودة للماضى والأصول الموهومة، أما الثانى فهو طريق التجدد والانفتاح على الآخرين، والتكيف مع واقع العالم الجديد فى ظل العولمة. واختيار أى من هذين الطريقين يتطلب وعياً عميقاً بمخاطر الانغلاق والعزلة كما يتطلب وعياً نقدياً بحدود الاقتباس والانفتاح. شئنا أم أبينا فالهوية العربية قد لا تمتلك حق الاختيار بين هذين الطريقين، ولا تمتلك غير طريق الانفتاح والحوار والاندماج فى الحضارة العالمية الحديثة والتخلى عن وهم الفرادة والتفرد وإدراك الخصوصية فى الحدود التى لا تعوق هذا الانفتاح، وكذلك المشاركة فى الجدل الإنسانى والوعى النقدى العالمى للعولمة وتحدياتها، وهذا هو الطريق للتجدد والانعتاق من الأفكار الانعزالية وتأكيد الذات الجماعية والفردية إذا ما أردنا أن يكون للعرب وللعالم العربى صوت فى مجريات الأمور فى العالم.