خلال الأيام القليلة الماضية تغيرت، وبصورة جذرية، البيئة السياسية المصرية بفعل حل مجلس الشعب وإصدار العسكرى للإعلان الدستورى المكمل. دون مجادلة بشأن أحكام «الدستورية العليا»، رتب حل مجلس الشعب فراغا مؤسسيا وأطاح بهيئة جاءت بإرادة شعبية واضحة ومُثلت بها القوى السياسية بأوزان متفاوتة. ثم ركز الإعلان الدستورى المكمل السلطات بيد العسكرى على نحو أخرجنا من مسار تحول ديمقراطى ووضعنا أمام خطر استمرار السلطوية العسكرية وغياب النقل الفعلى للسلطة للمدنيين المنتخبين. وبغض النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية، سيكون الرئيس القادم رئيسا منقوص الصلاحيات ومقيدا فى اتخاذ القرارات السيادية والسياسية. عندما كتبت بالأمس عن امتداد صراع العسكر والإخوان، كنت أشير تحديدا إلى حقيقة أن حل المجلس والإعلان المكمل انضما، كساحتى صراع بين الطرفين، إلى الجمعية التأسيسية للدستور والدستور والتكالب على السيطرة على أجهزة الدولة التنفيذية والإدارية. عندما كتبت بالأمس عن خطر الصراع بين الطرفين، كنت أشير أيضا إلى حقيقة أخرى هى أن أهداف الثورة المصرية المتمثلة فى إنهاء حكم العسكر والقضاء على السلطوية وبناء نظام ديمقراطى ودولة مواطنة والقضاء على الفساد تكاد تضيع فى ثنايا الصراع هذا. عندما كتبت بالأمس عن أوراق قوة الطرفين المتصارعين، كنت أشير إلى الضعف النسبى لبقية الجماعة الوطنية بتوجهاتها الليبرالية واليسارية وبحركاتها الثورية والاحتجاجية وقدرتها المحدودة على التدخل فى الصراع الدائر على نحو ينقذ أهداف التحول الديمقراطى ونقل السلطة للمدنيين. عندما كتبت بالأمس عن صراع العسكر والإخوان، كنت أشير إلى ضرورة أن توضح الجماعة الوطنية خارج سياقات قوى الإسلام السياسى الإخوانية والسلفية (التى لا يملك أحد ادعاء عزلها عن الجماعة الوطنية؛ فهى فى صلب هذه الجماعة وتقتضى مصلحة الوطن عدم النظر إليها على نحو إقصائى) موقفها من الصراع الدائر والكيفية السياسية التى تريد بها الانتصار لأهداف الديمقراطية والمدنية. وعلى الرغم من خطورة اللحظة الراهنة ونزوع بعض السياسيين والشخصيات العامة للصمت تحسبا لتطورات الأيام المقبلة، أبدأ بنفسى وأعيد التأكيد على منطلقات مبدئية لن أتنازل عنها أبدا. أخرج الإعلان الدستورى المكمل مصر فى المرحلة الانتقالية (2) من مسار تحول ديمقراطى بتركيز السلطات فى يد العسكرى ووضع بعض الإجراءات الديمقراطية الوليدة مع تحديات جسام وأفرغها من مضمونها. ولا سبيل أمام الجماعة الوطنية بإسلامها السياسى وتياراتها الليبرالية واليسارية والثورية فى المرحلة الانتقالية (2)، إن أرادت حقا التمكين للديمقراطية والمدنية، إلا بالتوافق على خريطة طريق محددة لمواجهة خطر انفراد العسكرى بالسلطة وإطالة عمر هيمنته عليها. تفرض خريطة الطريق هذه مجموعة من الالتزامات على الإسلام السياسى، وفى الصدارة الإخوان. أولا: عليهم التخلى عن النزوع للاستئثار بالسياسة وتهميش غيرهم، وهو ما مارسوه خلال الأشهر الماضية وكلفهم، وإن لم يدركوا هذا بعدُ، ثمنا باهظا تمثل فى انهيار التوافق بينهم وبين بقية الجماعة الوطنية. أدعو الإخوان للعمل معنا على إعادة تشكيل جمعية تأسيسية متوازنة وإنجاز مشروع دستور لكل الوطن يضمن الديمقراطية والمدنية والمواطنة. أدعوهم للالتزام بنتائج الانتخابات الرئاسية حين تعلَن من قبل اللجنة العليا، ما دامت نزاهة الانتخابات وإجراءاتها ونتائجها ليست محل شكوك جوهرية. وقد أبطلت صوتى فى جولة الإعادة. ثانياً: على الإخوان والسلفيين الشروع فورا فى حوار جاد مع بقية الجماعة الوطنية من أجل ترتيبات المرحلة الانتقالية (2) التى نواجه بها خطر انفراد العسكرى بالسلطة، ترتيبات تضمن أن يُكتب الدستور قبل الانتخابات التشريعية وأن نتوافق على قانون انتخابات متوازن ودستورى وأن نحترم حيادية أجهزة الدولة التنفيذية والإدارية ونعمل على إصلاحها بجدية دون محاولات للتغلغل بداخلها والهيمنة عليها. ثالثاً: على الإسلاميين وبقية القوى الوطنية، بعد الوصول إلى التوافق، الدخول فى تفاوض مع العسكرى بشأن ترتيبات المرحلة الانتقالية (2) ومواجهة خطر انفراده بهم وبنا. أرفض تركيز السلطات فى يد العسكرى الذى جاء به الإعلان الدستورى المكمل، كما أرفض حق الاعتراض على نصوص الدستور الجديد المخول للمجلس العسكرى وانفراده بتشكيل الجمعية التأسيسية إن سقطت الحالية والإجراءات الاستثنائية المرتبطة بالضبطية القضائية لهيئات عسكرية أمام المدنيين. ولا أريد رئيسا منقوص الصلاحيات، بغض النظر عن هويته. وإن جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية بمن سيعيد إنتاج النظام القديم، سأواجه هذا الخطر بكل الوسائل السلمية والسياسية المتاحة. إلا أننى أرفض أيضاً بقاء الجمعية التأسيسية الحالية وأطلب ضمانات واضحة من الإسلام السياسى بشأن الدستور ومدنية مصر واحترام نتائج الانتخابات الرئاسية طالما تثبتنا من نزاهتها والكف عن مشروع السيطرة على الدولة وأجهزتها. أدعو الإسلاميين للعودة إلى بقية جسد الجماعة الوطنية وتمكين القوى الأخرى من العودة إليهم، دون مزايدات وتحميل أخطاء وادعاء نقاء؛ فرفض خطر السلطوية العسكرية يجمعنا ومسار التحول الديمقراطى القادر على تحقيق أهداف الثورة لن يتحمل إخفاقاً يتجدد فى مرحلة انتقالية ثانية، وبالتأكيد لن يتحمل مرحلة انتقالية ثالثة. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.