ما زالت متاحف هولندا تبهرنى بأفكارها المدهشة، ولمَ لا وهى وطن فان جوخ معشوقى الأول فى الفن التشكيلى والقادر على إدهاش الدنيا كل لحظة سواء فى تفاصيل فنه أو حياته الشخصية؟ بعد زيارة متحف التعذيب بكل ما فيه من أدوات القهر ودلالات المعركة الأبدية بين نور الحرية والعقل وظلام القمع والقهر، كانت هناك زيارة أخرى لمتحف يتعامل مع أعظم أسرار الكون التى لم نفك كل شفراتها حتى الآن، الجسد الإنسانى، متحف جسم الإنسان corpus museum القريب من مدينة ليدن وفى المسافة ما بين أمستردام ولاهاى، المتحف حجوزاته لا تنتهى وطوابيره ممتدة، خاصة أن الجولة فى طوابقه وممراته تستغرق حوالى ساعة، ولا بد للفوج ألا يزيد على 16 فرداً. أروع ما فى الفوج الذى كنت فيه هو أن نصفه تقريباً أطفال ما بين الثامنة والعاشرة من العمر، وكانت متابعتى لعيونهم وهى تلتهم التفاصيل وآذانهم وهى تمتص المعلومات كورقة النشاف وأمخاخهم وهى تتساءل وتطلب المزيد والمزيد، كانت هذه المتابعة على نفس درجة متعة متابعة المتحف نفسه، تذكرت أطفالنا الغلابة الذين لا يدخلون المعمل إلا مرة واحدة فى السنة للفرجة فقط وللحصول على درجات أعمال السنة وكل تفاصيل العلم هى حفظ واجترار وتلقين وترديد، المتحف رحلة تقف فيها على أطراف أصابعك تكتم أنفاسك وأنت تشاهد من خلال نظارة الشاشة ثلاثية الأبعاد تفاصيل الجسم وأنت تتجول بداخله، رحلتك ليست رحلة سائح يلمس من الخارج بل أنت داخل الحدث، أنت كرة دم حمراء داخل القلب والشرايين تلمس عظامك نبضاته، أنت داخل الأمعاء تراقب الأهداب والرئة تلمس الحويصلات، أما المخ فأنت كهرباء سحرية تترجم الانفعالات والصور والأصوات إلى حياة. فى المتحف تتم الإجابة لهذا الطفل الصغير عن كيف أتى إلى الدنيا؟ لم يجب عليه المتحف بأن أمه وجدته بجانب الجامع، كما نجيب نحن بخيبتنا التقيلة وورعنا المزعوم وخجلنا المزيف، ولكنه يرى رحلة الحيوان المنوى والإخصاب بكل بساطة وسلاسة وعلم وأدب أيضاً، ويشاهد العجوز كيف يشيخ الإنسان وكيف تهرم خلاياه وكيف يحافظ على صحة هذه الماكينة البشرية الراقية العظيمة، كلنا قلنا: الله، بدون خطب وعّاظ أو فتاوى دعاة، من طفل الثامنة حتى شيخ التسعين، خرجنا من المتحف ونحن نحب الحياة، نفهم الحياة، نحسن التعامل مع مفردات الحياة، نعرف أن الدنيا تنوُّع واختلاف، ومن هذا التنوع ومن هذا الاختلاف تتطور الدنيا، خرجنا ونحن واثقون متأكدون أن من يكرهون التنوع ويريدون الدنيا نسخ كربون سينقرضون منها كالديناصورات، وسيضمرون كالزوائد الدودية وعصعص العمود الفقرى. إنه متحف يفتح مسامَّك على استنشاق أوكسيجين العلم والحضارة ويجبرك على التساؤل: لماذا يا رب جعلتنا نعيش زمن كارهى الحياة وخفافيش الظلام ممن لا يرون فى الجسم الإنسانى إلا غرائز ونجاسات ورجس؟