«المصري اليوم» ترصد الطابع الاقتصادى للحكومات المصرية منذ «52»    حدث ليلًا| موعد إجازة رأس السنة الهجرية وحالة طقس الخميس    وزير الري: نطالب بتطبيق مبادئ القانون الدولي للحصول على حصتنا من المياه    ماعت تتناول الفئات الأولى بالرعاية في ضوء المعايير الدولية والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان    وزير الشؤون النيابية يشكر الرئيس ويؤكد: سنفتح قنوات مع جميع الكيانات السياسية    الأصغر سنا.. شريف الشربينى أول رئيس جهاز يصبح وزيرا للإسكان.. فيديو    سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق في ختام الأسبوع الخميس 4 يوليو 2024    أبرز مشروعات وزير البترول الجديد بالقطاع الحكومي.. تعرف عليها    الموساد: إسرائيل تلقت رد حماس على اقتراح وقف إطلاق النار في غزة    الكويت تعلن اعتقال مواطنين بتهمة الانضمام لتنظيم محظور    بيراميدز: لم نرفض انضمام صابر وعادل للمنتخب الأولمبي وطلبنا التنسيق فقط    عرابي: نرفض انضمام زعزع للمنتخب الأولمبي.. ولم نناقش انتقال نجويم إلى الزمالك    ملف رياضة مصراوي.. تعادل الزمالك.. قائمة الأهلي لمواجهة الداخلية.. وتصريحات وزير الرياضة    مدرب إسبانيا الأولمبي: لدينا غيابات كثيرة ستؤثر علينا.. وسأكون سعيدًا بالعمل في مصر    دويدار: الموسم الحالي الأسوأ في الكرة المصرية    موعد مباراة الأهلي والداخلية بالدوري المصري والقناة الناقلة    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 4 - 7 - 2024    بالصور.. انهيار منزل في شبين الكوم بالمنوفية وسط قلق الأهالي    طارق الشناوي: توفيق عبد الحميد بخير    خبراء ل قصواء الخلالي: السير الذاتية لأغلبية الوزراء الجدد متميزة وأمر نفخر به    أحمد حلمي: "أتمنى الدولار يوصل 3 جنيه وأوصل العالمية"    ميمي جمال تكشف حقيقة وجود جزء ثاني ل"العتاولة" وثالث ل "كامل العدد"    أفعال مستحبة في ليلة رأس السنة الهجرية    أمين الفتوى: لا ترموا كل ما يحدث لكم على السحر والحسد    كراكاس: فنزويلا والولايات المتحدة تتوافقان على "تحسين العلاقات"    نجم الزمالك السابق: هناك عناد من الأهلي وبيراميدز ضد المنتخب الأولمبي    رئيس مجلس الوزراء يعلن موعد إجازة رأس السنة الهجرية    فلسطين.. اندلاع مواجهات عنيفة عقب اقتحام قوات الاحتلال المنطقة الجنوبية لمدينة الخليل    إجراء تحليل مخدرات لسائق ميكروباص تسبب في سقوط 14 راكبا بترعة بالصف    انتهى الخلاف بطلقة.. تحقيقات موسعة في مصرع شاب إثر مشاجرة بالواحات    تكليف لميس حمدي مديرًا لمستشفى طلخا المركزي بالدقهلية    هاني سعيد: بيراميدز لم يعترض على طلبات المنتخب الأولمبي.. وهذا موقفنا النهائي    لبنان.. قصف إسرائيلي يستهدف خراج بلدة السريرة بمنطقة جزين جنوبي البلاد    بايدن: أنا زعيم الحزب الديمقراطي.. لا أحد يدفعني للرحيل    وزيرا خارجية أمريكا وأوكرانيا يبحثان تعزيز الدفاع الجوي لأوكرانيا    وزير الخارجية الأرميني: مستعدون لتطبيع العلاقات بالكامل مع تركيا وفتح الحدود    الجانى مجهول.. إصابة شخص ونجله بطلق ناري حي ببنى سويف    والدة شاب تعدى عليه بلطجي بالمرج تكشف تفاصيل الحادث    فحص نشاطها الإجرامي.. ليلة سقوط «وردة الوراق» ب كليو «آيس»    مصرع طفل غرقا داخل نهر النيل بقنا    «مستقبل وطن»: تشكيل الحكومة الجديدة متناغم وقادر على إجادة التعامل مع التحديات    تونس وفرنسا تبحثان الآفاق الاستثمارية لقطاع صناعة مكونات السيارات    الجمعية العربية للطيران المدني تزكي الكويت عضوا بمجلسها التنفيذي للمرة الثالثة على التوالي    عمرو خليل: اختيار الوزراء في الحكومة الجديدة على أساس الكفاءات والقدرة    اتحاد الصناعات: وزارة الصناعة تحتاج لنوعية كامل الوزير.. واختياره قائم على الكفاءة    رئيس جامعة دمياط يشهد مناقشة رسالة دكتوراة بكلية الحقوق    3 طرق بسيطة لإسعاد زوجك وجعله يشعر بالسعادة    حظك اليوم| برج الدلو 4 يوليو.. «يوم الأفكار المبتكرة والاتصالات الاجتماعية»    أستاذ استثمار عن التغيير الوزاري: ليس كل من رحل عن منصبه مقصر أو سيئ    أول تصريح لمحافظ الأقصر الجديد: نعزم على حل المشكلات التى تواجه المواطنين    أدعية رأس السنة الهجرية.. يجعلها بداية الفرح ونهاية لكل همومك    وزير الزراعة الجديد: سنستمكل ما حققته الدولة وسأعمل على عودة الإرشاد الزراعي    أمين الفتوى: لا تبرروا كل ما يحدث لكم بشماعة السحر والحسد (فيديو)    إحالة طبيب وتمريض وحدتي رعاية أولية بشمال سيناء للتحقيق بسبب الغياب عن العمل    أهم تكليفات الرئيس لوزير الصحة خالد عبد الغفار.. الاستثمار في بناء الإنسان المصري    أستاذ حديث: إفشاء أسرار البيوت على الانترنت جريمة أخلاقية    تعيين عبلة الألفي نائبة لوزير الصحة والسكان    هيئة الدواء توافق على زيادة سعر 3 أدوية (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



8 أعوام فى بيت العنبكوت
نشر في الوطن يوم 02 - 05 - 2013

لا أستطيع أن أعدك فى السطور التالية بإذاعة أسرار جديدة حول قمة السلطة الهرمية لجماعة الإخوان، من أعضاء مكتب الإرشاد الحاليين، وما يفعلونه بمصر، فقد أصبحت أمورهم مكشوفة ومعلومة لكل قاصٍ ودانٍ، قد أفيدك بعض الشىء بمعلومات حول القيادات التاريخية للجماعة زمن «عمر التلمسانى» و«محمد حامد أبوالنصر»، و«مصطفى مشهور»، و«أحمد حسنين» وغيرهم، لكن الفائدة الأهم التى أرجو أن تخرج بها من قراءة هذه السطور ترتبط باستيعاب الطريقة التى تنصب بها «الإخوان» «الفخ» لاصطياد أعضاء جدد، بطريقة تشبه طريقة العنكبوت فى الاصطياد، حين يمد خيوطه ويمكث منتظراً، حتى تلتصق بها الفريسة، فيمتصها بلا رحمة.
ولم يكن للجماعة أن تنجح فى إحكام الفخ بهذه البساطة لتصطاد «أتباعها»، دون أن يهيئ لها المناخ العام الفرصة الكاملة لذلك. فظروف وملابسات الحياة فى مصر كانت -ولا تزال- تدفع المواطن العادى دفعاً إلى الوقوع فى حبائل الإخوان، وإذا كانت التفاعلات الحالية تبشّر بسقوط وتهافُت الفكرة التى تأسست عليها الجماعة أمام أعين المصريين، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يضمن اختفاء «الفخ الإخوانى» من حياة المصريين، فسوف يواصل عمله، ما دام الواقع يوفر التربة الخصبة لبذر بذور تلك «الزرعة» التى لا تنمو -ويا للعجب- إلا فى الأرض البور، لتورث المجتمع البوار، فمهما تعاملت مع الأسباب الظاهرة لمرض معين، فلن تستطيع أن تأمن خطر الإصابة به، إذا ظلت الجراثيم المسبّبة له سارحة فى البيئة الحاضنة.
هذه تجربتى مع الإخوان التى امتدت لثمانى سنوات متصلة، وظلت توابعها تلمس مواضع كثيرة فى حياتى، منذ واجهت الجماعة بعبارة: «هذا فراق بينى وبينكم» وحتى الآن، حكاية أرويها من أسفل إلى أعلى، أغوص فيها داخل أحشاء «الجماعة» وأتجول فى تلافيف «إنسانها»، سارداً تفاصيل كثيرة، قد تبدو موجعة، أو محبطة، بل ومضحكة فى أحيان، لكن يبقى أن قيمتها قد تتمثل فيما يمكن أن توفّره لك من مصابيح هدى تكشف تضاريس خريطة عقل، ومعالم نفس «الإخوانى». وسأحاول أن آخذك من «الأسفل» الإخوانى إلى أعلى، حيث يضيق عرض الهرم شيئاً فشيئاً، حتى نصل إلى مكتب الإرشاد، وتتواصل الرحلة حتى نصل إلى العنق، حيث المرشد العام للجماعة، وفائدة المسلك الذى سلكته فى تسطير هذه التجربة أن أسجل لك بالمشاهد الحية كيف تستثمر الجماعة «غُلب» من يقع فى شباكها فى تحقيق «انتصاراتها». وكذا تبقى معادلة دخول الجماعة: إنسان يهزمه الواقع ليُلقى به فى أحضان «الإخوان»، وكذلك معادلة الخروج منها، حين يبرأ الإنسان من إحساسه بالضياع، ويتأكد بالتجربة أن حياته فى الجماعة جعلته «أضيع»، هنالك يأتى قرار الرحيل، وترك هذا البيت الواهن.. وصدق الله العظيم إذ يقول «وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (سورة العنكبوت - الآية 41).
(صور النكسة)
كثيراً ما وقفت متأملاً للخريطة الزمنية التى تشكل خطوط رحلة الجيل الذى أنتمى إليه فى دروب الحياة، التى قَدّر لها الله أن تتواصل حتى هذه اللحظة. فقد اشتم أبناء جيلى نسمات الميلاد خلال السنوات الأولى من حقبة الستينات، وفيها أيضاً كان غموض مرحلة الطفولة المبكرة، ذلك العالم المحتشد بصور متنوعة، يرتبط بعضها بأحداث تكتسى فى الذاكرة بمعانٍ معينة، لكن يبقى أن أغلبها يبدو مُبهماً غامضاً، أو أقرب إلى الخيالات. والأمر يختلف عند النظر إلى حقبة السبعينات التى احتضنت طفولتنا المتأخرة، وانصهرنا فى نصفها الثانى فى بوتقة المراهقة، إذ تبدو الصور أكثر وضوحاً وتماسكاً. أما الثمانينات فقد عشنا فيها أوائل مرحلة الشباب وزمان الجامعة، وتقلّبت بنا الحقب التالية لها لتتخاطر بنا فى طور الرجولة، ومع تواليها ألقت بنا عجلاتها عند أعتاب الكهولة، كذلك كانت الأعوام الثلاثون التى تجمع الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من الألفية الجديدة، الذى انتهى بثورة 25 يناير.
خريطة تحتشد بالكثير من مواطن العجب، يبدأ أول خطوطها عند تلك الصورة المبهمة لبشر تشعّ عيونهم بالرضاء، يجمع بينهم نوع فريد من الأُنس، وقدر كبير من التآلف والهدوء، حالة من الطيبة العميقة كانت تسيطر على المشهد، أذكرها جيداً من سلوك عجيب كان أغلب من حولى يجيدونه تماماً: سلوك «الطبطبة»، الكل كان «يطبطب» على غيره. فلا يوجد ما يدعو إلى الاحتقان أو الضجر. فجأة تتراجع هذه الصورة وتقفز صورة «المناحة»، وأصوات الشباب والرجال فى الشوارع يصيحون «طفّوا النور»، يسبق صياحهم صوت مزعج لما كنا نسميه «زمّارة الخطر»، فتنطفئ الأنوار، وتغرق البيوت فى عتمة تشبه عتمة القبور، وبعد وقت، تضج «زمّارة أخرى»، تهدى إلينا «الأمان»، فتوقد الأنوار وتنبعث الحياة من جديد حتى حين. صورة «الخال» وهو يطلى زجاج النوافذ ومصابيح البيت بطلاء أزرق اللون، لست أدرى لماذا؟. صور الأساتذة و«الأبلوات» بعدما التحقنا بمرحلة التعليم الابتدائى أواخر الستينات، وهم يبكون، حتى الرجال كانوا يبكون، لماذا؟. لقد قصفت إسرائيل مدرسة «بحر البقر»، وقتلت أطفالاً صغاراً، لم يكونوا قد فهموا بعد معنى الحياة حتى يستوعبوا معنى الموت، حين قطفت أعمارهم «دانات» الغدر، ثم صورة الذُّعر الذى يجتاحنا، ونحن بالمدرسة، عندما نستمع إلى «أزيز» طائرة فى السماء، فنهرع إلى الاختباء أسفل «التُّخت»، فى انتظار مصير أطفال «بحر البقر»، وينتهى المشهد بصورة الجدة وهى تبكى، وتخبرنى بتعطيل الدراسة، فأرد عليها بصوت تغزله البهجة: لماذا؟!.. فتجيب بصوت ينسجه الحزن: «مات جمال عبدالناصر»!
يزيد الوعى بالحياة أكثر، فيتدفق المزيد من المشاهد، وتتوالى الصور. هذه صورتنا ونحن أطفال نصعد إلى الفصول على نشيد: «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين»، وتلك صورة السواتر (حائط مبنى بالطوب الأحمر) التى نُصبت أمام البيوت المكشوفة فى الشوارع، أما بيوت الحوارى والأزقة فلم تكن تحتاج إلى ذلك، إذ كانت تتحصّن بسواتر من التزاحم البشرى، وهذه صور العبارات التى كُتبت بخطوط رديئة على حوائط البيوت والساحات الشعبية (النوادى)، وتقفز بها باستمرار كلمة (حنحارب)، صوت أغانينا ونحن أطفال «حنحارب حنحارب.. اليهود أرانب».. «واحد اتنين تلاتة.. إسرائيل شحّاتة.. شحتت من أمريكا.. القلم والأستيكة».. «قناة السويس.. عيسى وعويس.. جاء لويس.. قال لنا هس.. انتوا النص واحنا النص.. جاء جمال أبوالأبطال.. حرر مصر وخدنا وطار».. أحاديث نسمعها من الأساتذة والأهل والأقارب عن الحرب التى لابد منها حتى تتحرر الأرض، والغمز واللمز فى الجيش الذى انسحب من سيناء، بعد أن ظن قائده أنه «على كل شىء قدير»، ونسى رب القدرة!
إنها السنوات التى أعقبت «النكسة»، تلك المفردة التى سكها الكاتب «محمد حسنين هيكل» ليصف بها هزيمة الجيش المصرى عام 1967، فالأمر لا يعدو النكسة، التى سنقوم منها، لأننا فى كل الأحوال سنُحارب ونثأر لأنفسنا، لذلك كان من الطبيعى أن كلمة «حنحارب» هى أولى الكلمات التى قرعت سمعى بعنف، وأسماع من عاش تلك المرحلة. ولست أدرى معنى أن يقول من انتوى الحرب: «حنحارب»، من قرر أن يحارب فعلاً لا يقولها، لكننا كنا نردّدها ليل نهار. والواضح أن جرح النكسة كان عميقاً فى النفس المصرية أشد العمق. كان الأمر طبيعياً جداً، فقبل الحرب فى 1967، كانت الشعارات المرفوعة فى كل مكان أن جيشنا المصرى قرر أن يُحرِّر فلسطين، ذلك هو هدف الحرب كما فهم الناس، وبعد أن اندلعت نارها، إذا بهم يجدون الجيش عائداً، وقد فقد سيناء فى الطريق! ذهب الجيش ليحرر فلسطين، فعاد بدون سيناء المصرية، كان الانكسار عظيماً، فاكتأبت النفوس، وسكنتها الأحزان، لكنها لم تتوقف عن كلمة «حنحارب»، لكى تُصبّر نفسها!
(الزبيبة واللحية)
مات «عبدالناصر» وانشغل الناس بالرئيس الجديد «أنور السادات» بعض الشىء، ما كنت أشعر به وقتها أن ثمة تراوحاً فى مشاعر الناس نحوه ما بين مرحّب به، وكاره له وشاعر بالفرق بينه وبين الرئيس السابق. خرج «السادات» فى خطابه الأول يشكر من قال له «نعم»، ومن قال له «لا»، فتناقلت ألسنة المصريين نكتة تقول: «عندما خطب السادات وجّه الشكر لمن قال له نعم ومن قال لا.. ووجه شكراً خاصاً إلى أمّه نعيمة التى قالت له نعمين». و«أمّه نعيمة.. نعمين» كانت أغنية شهيرة ل«ليلى نظمى» تُذاع فى الراديو ليل نهار فى ذلك الوقت. ومن عجب أن تيمة الشكر للمؤيدين والمعارضين تكرّرت فى الخطاب الأول للدكتور «محمد مرسى» بعد إعلان فوزه برئاسة مصر، حين قال: «أشكر من أيدنى وأشكر من عارضنى»! ومثلما صرخ بعضهم بعد أن أصبح «مرسى» رئيساً لمصر: رئيسكم ملتحٍ ألا تكبرون، رئيسكم يُصلى الفجر ألا تهللون؟، استقبل بسطاء المصريين السادات «المتديّن» بقدر كبير من الحفاوة والاحتفاء. سمعت جدتى تُثنى على «الريس الجديد» الذى أمر بقطع برامج الراديو لرفع الأذان، امتدح جارنا الطيب الذى تُزيّن وجهه لحية بيضاء مهيبة اهتمام «السادات» بالصلاة، لدرجة أن «زبيبة» الصلاة أصبحت علامة على جبهته، واحتفى بحديث «الريس» عن «دولة العلم والإيمان». ومؤكد أنه لا وجه للمقارنة بين «السادات» و«مرسى»، لكننى أردت أن أتوقف عند مشاعر المصريين التى لا تتغير نحو الدين، فدائماً ما تعجبهم فكرة «التديُّن»، حتى لو كان شكلياً.
وفى المقابل كان هناك من ينظر إلى «السادات» بعين السُّخط والغضب، خصوصاً بعد قيامه بما أطلق عليه «ثورة التصحيح» فى 15 مايو 1971، كان الراديو يجلجل بالأحكام التى حكم بها القضاء على مراكز القوى. كنا نحفظ ولا نفهم. عبارة مثيرة: «مراكز قوى»! أذكر أننى قرأتها هكذا فى الصحف، وما أكثر العبارات التى علقت فى ذهن الناس وقتها لمجرد أنها قيلت. المهم الشكل وليس المضمون، المهم الصوت وليس المعنى، لا تبالِ! أصوات عديدة لم يعجبها الصوت والشكل الجديد الذى خرج به «أنور السادات»، صوت العلم والإيمان، وصوت الأذان، وشكل الزبيبة، والركوع والسجود، أقول ذلك لأننا وجدنا أغنية جديدة تتردد على ألسنتنا، ونحن نطير خارجين من المدارس، بعد الإفراج عنا بانتهاء اليوم المدرسى، وهى أغنية تُعارض أغنية شهيرة ل«عايدة الشاعر» التى ذاعت شهرتها أوائل السبعينات، كانت «عايدة الشاعر» تغنى فتقول «جابلك إيه يا صبية.. حبيبك لما عاد.. جابلى عقد وجلابية وقالى كفاية بعاد»، وكنا نغنى ونقول «جابلك إيه يا صبية.. عبدالناصر لما مات.. جابلى عجل من المنوفية.. اسمه أنور السادات»! كذلك اعتدنا التعبير عن «مخزون الغضب» بداخلنا نحو السلطة، إما بالتنكيت وإما بالتبكيت (اللوم والتأنيب).
بدأت كلمة «حنحارب» تختفى، عندما قرر «السادات» أن يحارب فعلاً، بدأ يُعشّم الشعب بالحسم: «الأشهر الستة القادمة أشهر الحسم.. العام الحالى عام الحسم»، والحسم لا يأتى، بدأ المصريون يشكُّون فى أن «السادات» ينوى الحرب فعلاً، وفى اللحظة التى أحس فيها المصريون أن «العشم» فى تحرير الأرض أصبح «وهماً»، قرر «السادات» الحرب فى أكتوبر 1973. كان القلق يعتصر الجميع، خوفاً من أن تكون البيانات الأولى خديعة، خصوصاً أن البيان رقم (1) لم يكن بيان العبور، كما يظن البعض، بل كان بياناً عسكرياً يفيد بتعرُّض قواتنا المرابطة على ضفة القناة لهجوم من العدو، وأنها تتعامل معه، ثم جاء بيان العبور. كانت «عُقدة الكذب الرسمى» قد رسخت فى وجدان الناس بسبب ما حدث فى نكسة 1967. وما إن تأكدت الأخبار حتى انخرط الجميع فى فرحة مشوبة ببعض القلق، ومع الفرحة توهج الوعى أكثر وأكثر، كان الكل وقتها يؤكد أن مفتاح العبور كان فى عبارة «الله أكبر» التى هتف بها جنودنا وهم يعبرون المانع المائى، وكلمة «بسم الله» التى دأب «السادات» على بدء خطاباته بها. وأمطرتنا الإذاعة وقتها بالعديد من الأغانى التى تُرسِّخ هذا المعنى، وأصبحت جزءاً من وجدان جيل بأكمله: «وسمينا وعدينا.. وإيد المولى ساعدتنا».. «بسم الله.. الله أكبر.. بسم الله.. بسم الله.. أذن وكبر». لقد انتصر «السادات» لأنه استعان بالله.. فلم يخذله المولى عزّ وجلّ.. هكذا قال جارنا الطيب ذو اللحية البيضاء المهيبة، وهو يخاطب أبى، لم يفعل مثل سلفه الذى نسى الله، وعذّب المسلمين، كان أبى يعلق على كلام هذا الجار كلما جاءت سيرته بعبارة «أصله من الإخوان المسلمين».. الإخوان المسلمين؟! ماذا يعنى ذلك؟ لم أكن أفهم وقتها للعبارة أى معنى، لكنها أعجبتنى!
دائماً ما يحب المصريون إشراك السماء فى أعمالهم الدنيوية، فالنكسة لحقت بنا عام 1967، لأن الذى كان يظن أنه قادر على كل شىء، نسى فى غمرة غروره الرب القدير، وجاء النصر ساعة أن تذكّرنا رب السماء، فذلّل لنا صعاب الأرض، ذلك ما يتبناه العقل المصرى ليجعله ذلولاً بعد ذلك للذوبان فى العقل الإخوانى.
(حسن البنا.. مُجدّد القرن العشرين الميلادى!)
من اشتعال الوعى يولد الفضول، ولحظة أن يولد الفضول تتوالد الأسئلة، ولا يطفئ لهيب السؤال إلا الإجابة، كنت أجلس إلى جوار جارنا الطيب لمشاهدة التليفزيون، بينما كان منهمكاً فى قراءة كتاب ذى غلاف فخم، أدركت فيما بعد أنه أحد كتب التراث، سألته فجأة: «يعنى إيه الإخوان المسلمين». ضحك «الطيب» وأجاب عن سؤالى بسؤال «لماذا تسأل عنهم؟». لم أعرف كيف أشرح له الأمر، أردت أن أقول له إن أبى يقول عنه: إنه من الإخوان المسلمين، لكننى تردّدت، فأجبته «أريد أن أعرف»!، رد باقتضاب: «ناس طيبون.. عندما تكبر سوف تعرف عنهم». كنت شغوفاً بقراءة الصحف التى دأب أحد أخوالى، كان يعيش معنا، على شرائها، كانت أوراقها تتزاحم حينئذ بصور كثيرة لرجال ذوى «لُحى» سوداء، وعيون جاحظة، ووجوه فظة. رجال التكفير والهجرة، كما أطلقت عليهم الصحف. «شكرى مصطفى».. «طارق عبدالعليم».. تلك هى الأسماء التى أذكرها، كان ذلك فى عام 1977، عندما سمعت فى الراديو وقرأت فى الصحف خبر اختطاف وزير الأوقاف الأسبق الدكتور «محمد حسين الذهبى»، كان الحدث محل اهتمام الجميع، سمعت من حولى يقولون إن «الذهبى» هاجم فكر «التكفير والهجرة»، فاختطفوه، ثم أُعلن بعد ذلك أنهم قتلوه برصاصة فى إحدى عينيه، وتم العثور على جثته، وقُبض على «شكرى مصطفى»، وهرب «طارق عبدالعليم»، ونُشرت صوره فى الجرائد كشخص مطلوب للعدالة، مع توجيه الدعوة إلى المواطنين للمساعدة فى القبض عليه، لا أنسى مطلقاً صورة شكرى مصطفى، بلحيته السوداء الكثة، وشعره الأسود الكثيف، وعيونه المتحدية، وأسفل منها كلام كتبه المحرر حول «شكرى مصطفى يقول: أنا خليفة الله على الأرض!». قرأت سطوراً عديدة حول جماعة التكفير والهجرة التى تدعو المؤمنين بأفكارها إلى تكفير المجتمع والهجرة إلى شِعاب الجبال لإعداد العدة لقتال الكافرين! هكذا كانت تقول الصحف. كان الكفار فى نظرى وقتها هم «أبولهب» و«أبوجهل»، بمناظرهم العالقة فى ذهنى، التى شاهدتها فى الأفلام العربية الدينية، مثل: «فجر الإسلام» و«هجرة الرسول» وغيرها، بعقل الطفل لم أجد اختلافاً بين مناظر الكفار وصورة «شكرى مصطفى». تساءل عقلى الطفولى -وقتها- فى دهشة: كيف يقبل المسلم بذات المظهر القديم الذى كان يبدو عليه الكافر أيام الرسول، صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كان هذا بلحية وذاك بلحية، وهذا غاضب وذاك أشد غضباً، فكيف أفرِّق بين المسلم والكافر، وكلاهما عاقد الحاجبين، وشعر رأسه غزيز، ولحيته كثيفة تذهب مع الريح فى كل اتجاه؟!
كان الاهتمام يلفنى كلما وجدت قضية من هذه القضايا، يكون بطلها واحداً من أصحاب «الدقون»، وقد تصادف أن انشغلت الصحف المصرية فى عام 1979 بواحدة من هذه القضايا، لكنها لم تكن داخل مصر هذه المرة، بل فى المملكة العربية السعودية، فقد بدأت الأخبار تتدفّق عن ذلك الحدث المثير الذى استولى فيه «جهيمان العتيبى» وجماعته على المسجد الحرام. تابعت بشغف كل ما يُنشر وما يُذاع فى الراديو حول هذا الموضوع، حتى تم القبض على «جهيمان»، بمساعدة قوات مصرية، كما كان يتحدث الناس فى ذلك الوقت. ولا أنسى ما حكته الصحف -أيامها- عن أن أتباع «جهيمان» يُلقبونه ب«المهدى المنتظر»، وأنه ممن يبعثهم الله على رأس كل مائة عام ليجدّدوا لهذه الأمة شبابها، وأذكر أيضاً ما نشرته إحدى الصحف عن أن مياه «زمزم» أغرقت أحد المجرمين الذين استولوا على البيت الحرام، ولا أدرى كيف؟!
وقد يكون من المفيد أن أتوقف قليلاً أمام هاتين الشخصيتين: «شكرى مصطفى» و«جهيمان العتيبى»، فرغم بُعد المسافة بينهما، وتباين الأهداف، واختلاف روافد التكوين، فإن هناك خيطاً متيناً يربط بينهما، وقد يجمعهما بغيرهما أيضاً، وهو أن كل شخص منهما اعتبر نفسه «المهدى المنتظر» الذى جاء ليملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً، ومن المؤكد أن كلاً منهما نظر إلى نفسه على أنه الشخص المعنىّ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يُجدد لأمتى دينها»، وأنه المجدّد الذى ساقه الله إلى الأمة فى الفترة الزمنية التى عاشها ليُجدد لها دينها. ومؤكد أن التجديد هنا ليس معناه الاختراع بحال، ربما كان المقصود به الاكتشاف، أو تنبيه المسلم إلى ما غفل عنه من أمور الدين. وهناك حديث آخر يقول فيه النبى صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، ودلالة هذا الحديث النبوى الشريف واضحة على أن مُنحنى التاريخ الإسلامى يسير إلى أسفل باستمرار، وأن السابقين خير من اللاحقين. والله تعالى يقول: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونََ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينََ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ» (سورة الواقعة - الآيات: من 10 - 14)، والمقصود ب«السَّابِقُونَ» فى الآية الكريمة المبادرون إلى الإيمان وصُنع الخير، وهؤلاء كثرة (وهذا معنى ثلة) فى الأولين، وقليل من الأجيال التى تليهم (من الآخرين). فحديث «خير القرون» يتناغم مع هذا المعنى القرآنى، وهو معنى لا نكاد نلاحظه فى حديث «المجدّد» الذى يأتى على رأس كل مائة عام، والذى لا تسنده آيات القرآن الكريم، بل يتناقض هذا الحديث فى معناه ودلالته مع الآية الكريمة التى تقول: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (سورة المائدة - الآية 3). فمَن هذا الذى يُمكن أن يضيف إلى هذا الدين بعد أن اكتمل؟
والدرس الأول الذى يتعلمه أى شخص يطرق باب الإخوان هو: أن الأستاذ حسن البنا «المجدّد» هو الذى بعثه الله على رأس القرن العشرين ليُجدّد للأمة دينها. فهذا الدرس ركن ركين فى عقل كل إخوانى، وقد كان كتاب «حسن البنا.. الرجل والفكرة» للكاتب محمد عبدالله السمان، أحد الكتب التى كنا نتدارسها فى الجلسات، كما سأشرح فيما بعد. ومن يقرأ هذا الكتاب سيجد أن هناك عبارة دالة تتصدّر صفحاته الأولى يقول فيها الكاتب: «إذا كان حسن البنا قد مات فإن فكره لن يموت، وتأثيره باقٍ وممتد، يتمثل فى أجيال صنعها على مائدة الإسلام بأسلوب العصر، ويتمثل فى هذا المد العالمى للحركة الإسلامية التى وضع -رحمه الله- بذورها الأولى، وحسن البنا بعد كل هذا هو مجدّد الإسلام فى القرن العشرين». ذلك هو الدرس الأول الذى يتم تربية «الأخ المسلم» عليه داخل الجماعة: أن حسن البنا هو «المجدّد». وكثيراً ما كنت أحتار أمام هذه العبارة: «حسن البنا هو مجدّد الإسلام فى القرن العشرين»! القرن العشرين الميلادى؟!، هل كان النبى صلى الله عليه وسلم يتحدث بالتقويم الميلادى أم الهجرى؟! وعموماً فإننى أجد من الخطورة بمكان أن تستند أمة إلى ثقافة «ظهور المجدّد» الذى يأتيها على رأس كل مائة عام، لأن معنى ذلك أنها فى حِل من أن تجتهد فى الحياة أى اجتهاد، لأنها تمكث هناك فى انتظار «المجدّد»!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.