عندما أطلق حسن البنا جماعته فى فضاء بيئة ليبرالية مصرية متأثرة بروح غربية، لم يكن الغزو السلفى وصلها بعد من الجزيرة العربية، وكان للحياة المصرية طابعها الخاص، فهى بيئة حضرية ريفية لها دولة مدنية منذ آلاف السنين، تبتعد كثيراً عن البداوة، وتميل كثيراً إلى التصوف والتسامح مع المخالفين، وتنتصر للتيسير فى أمور العبادة والبساطة فى الاعتقاد. «البنا» -القادم من عالم الصوفية الروحانى السمح- ضربته رياح السلفية الوهابية مع قدومه للقاهرة وتأثره بالشيخ محمد رشيد رضا، وعندما قرر تحويل مسار جماعته من العمل الدعوى الخالص إلى الغوص فى بحيرة السياسة، مستهدفاً بناء الدولة الإسلامية بشعار تطبيق الشريعة، أيقن أن المسيحية المتسلحة بمبدأ المواطنة التى تتعارض مع مفهوم الدولة الإسلامية فى تصوره، ستقف حائلاً دون ذلك، فقرر مهادنتها بخطاب طمأنينة فى البداية إلا أن الأقباط فزعوا من مقولة أوردها البنا فى إحدى رسائله واعتبروها تهديداً مباشراً لهم عندما تحدث عن حكم أهل الكتاب وقال: «وأهل الكتاب يقاتَلون كما يقاتَل المشركون تماماً، إذا اعتدوا على أرض الإسلام، أو حالوا دون انتشار دعوته»، وتوقف الأقباط كثيراً حينها عند مقولته «لو حالوا دون انتشار دعوته»، ورأوا فيها تحريضاً مباشراً لاستباحة دمائهم عند معارضتهم لدعوة «البنا» ومشروعه». وأكمل «البنا» مستشهداً على وجوب قتال اليهود والنصارى بقوله تعالى: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» وكتب حينها القمص «سرجيوس» فى العدد 41 من السنة 20 من مجلة المنارة الصادر فى 6/12/1947 تحت عنوان: «حسن البنا يحرض على قتال الأقليات بعد أن سلح جيوشه بعلم الحكومة». وقام الجهاز الخاص للجماعة بالفعل باستهداف المنشآت والشخصيات اليهودية كما اعترف بذلك أحمد عادل كمال، أحد قيادات النظام الخاص، فى كتابه «النقط فوق الحروف»، تطبيقاً لما يبدو أنه إشارة من «البنا» بأنه يجوز قتال أهل الكتاب إذا حالوا دون انتشار «الدعوة»، وهو المعنى الذى وصل للأقباط جيداً. وفى بداية السبعينات من القرن الماضى، شن الشيخ محمد الغزالى فى كتابه «قذائف الحق» هجوماً على الأقباط، والكتاب من أهم الكتب فى المكتبة الإخوانية، حيث اعتبر الغزالى أن «الضمير الدينى عند إخواننا أهل الكتاب، ابتلع أكبر فضيحة عالمية عندما سوّغ العدوان على العرب، والتهم دورهم وأموالهم وتاريخهم، ولم ير فى ذلك شيئاً يستحق النكير»، وهو يقصد جريمة ابتلاع إسرائيل لفلسطين، ثم اتهم القساوسة والرهبان بأنهم «يصدون عن سبيل الله، وأن النصارى أسهموا فى ضرب الإسلام وكسر شوكته ومنع دولته». ويكمل: «إن الاستعمار أوعز إلى بعضهم أن يقف مراغماً للمسلمين، ولكننا نريد تفاهماً شريفاً مع ناس معقولين.. إن الاستعمار أشاع بين من أعطوه آذانهم وقلوبهم أن المسلمين فى مصر غرباء، وطارئون عليها، ويجب أن يزولوا، إن لم يكن اليوم فغداً وعلى هذا الأساس سموا جريدتهم الطائفية «وطنى». ويتابع: ومن هذا المنطلق شرع كثيرون من المغامرين يناوش الإسلام والمسلمين، وكلما رأى عودة من المسلمين إلى دينهم همس أو صرخ: عاد التعصب، الأقباط فى خطر، ولا ذرة من ذلك فى طول البلاد وعرضها، ولكنها صيحات مريبة أنعشها وقواها «بابا شنودة» دون أى اكتراث بالعواقب. وفى الثمانينات نشرت مجلة «الدعوة» لسان حال الإخوان المسلمين فى ديسمبر 1980 فتوى بعدم شرعية بناء أى كنائس جديدة فى مصر، وصاحبها محمد عبدالله الخطيب، مفتى جماعة الإخوان، ورفضت الجماعة حتى الآن الإقرار بخطأ هذه الفتوى. وفى التسعينات صرح مصطفى مشهور، المرشد الخامس للجماعة، بأن «مرجعية الحكم هى الشريعة الإسلامية، وأن على الأقباط أن يدفعوا الجزية بديلاً عن التحاقهم بالجيش حتى لا ينحازوا إلى صف الأعداء عند محاربة دولة مسيحية»، وتراجع بعد ذلك تكتيكياً عنها ولكنه لم ينكر صحتها. وصرح محمد حبيب، كان نائب مرشد الجماعة قبل انشقاقه مؤخراً، لصحيفة «الزمان» بقوله: «نحن جماعة الإخوان نرفض أى دستور يقوم على القوانين المدنية العلمانية، وعليه لا يمكن للأقباط أن يشكلوا كياناً سياسياً فى هذه البلاد وحين تتسلم الجماعة مقاليد السلطة والحكم فى مصر فإنها سوف تبدل الدستور الحالى، بدستور إسلامى، يحرم بموجبه كافة غير المسلمين من تقلد أى مناصب عليا، سواء فى الدولة أو القوات المسلحة، لأن هذه الحقوق ستكون قاصرة على المسلمين دون سواهم، وإذا قرر المصريون انتخاب قبطى للمنصب الرئاسى، فإننا سوف نسجل اعتراضاً على خطوة كهذه باعتبار أن ذلك خيارنا نحن». وبعد الهجوم على تلك التصريحات كتب محمد حبيب، الذى أقر بعد استقالته من الجماعة أن دوره فى مكتب الإرشاد كان تحسين صورة الجماعة، مقالة فى «الشرق الأوسط» لخصها فى أن «نظرتنا للأقباط على أنهم مواطنون لهم كافة حقوق المواطنة، ويترتب على ذلك حقهم الكامل فى تولى الوظائف العامة ما عدا رئيس الدولة». ويعلق المفكر د.ميلاد حنا بقوله: «سوف يستخدم الإخوان منهج التقية وينادون بأن المواطنة هى نهجهم، ولكننى أعرف أن منطق المذهب أقوى من مقاصد صاحب المذهب». وفى حوار لسامح فوزى مع مأمون الهضيبى عام 95، سأله: هل الأقباط مواطنون أم أهل ذمة، فأجاب: الاثنان. قال له أريد عبارة أكثر تحديداً، قال بوضوح «هم أهل ذمة». يقول مجدى خليل، الباحث القبطى: «المشكلة فى الإخوان ليس فيما يقولونه فقط، وإنما ما لم يقولوه، ففى وثيقتهم الوحيدة عن الإصلاح لم يتطرقوا إلى موضوع المواطنة من أساسه، ويرفضون الدخول فى تفاصيل عن أى شىء سوى كلام عام». ويكمل: «خطاب الإخوان خطاب دينى استعلائى، دائماً هناك الآخر الدينى المختلف، وحتى كلمة مسيحى يستبدلونها بكلمة نصرانى، ويستخدمون الألفاظ الجارحة للمسيحيين مثل حرب صليبية، الكفار، نصرة أمة الإسلام، تجييش المسلمين، كما ذكر حسن البنا بما فى ذلك قتال أهل الكتاب كما ذكر نصاً حسن البنا و«لا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة وفى غير مناصب الولاية العامة». ويستطرد: حتى تعداد الأقباط، هناك اتفاق بين كل الإخوان وحلفائهم على ذكر رقم 6% تعداداً للأقباط، رغم ما صرحت به الحكومة على لسان أسامة الباز فى عهد مبارك بأنهم 5ر12%». وإذا كانت ما فعلته الليبرالية المصرية والديمقراطية، والجماعة الوطنية هو «الاندماج الوطنى» لكل عناصر المجتمع، فإن الأقباط يرون أن ما يسعى إليه الإخوان بالنسبة لهم هو «الذوبان الدينى»، وهناك فرق شاسع بين الاندماج الوطنى والذوبان الدينى، فالتأسلم هو العدو الأول للاندماج الوطنى، وهو يصب فى خانة الذوبان الدينى للأقلية القبطية بما فى ذلك التخلى التدريجى عن دينها، وعند الحد الأدنى الذوبان فى الثقافة والهوية الدينى، ولذلك فإن حسن البنا وأتباعه أفسدوا جهود الجماعة الوطنية -حسب الباحث مجدى خليل. ولذلك فإن الجماعة دائمة المدح فى الأقباط الذين يقبلون فكرة الذوبان الدينى مثل رفيق حبيب المنظّر لدعوة الأقباط لهذا الذوبان، وجمال أسعد الذى ترشح فى مجلس الشعب تحت شعار «الإسلام هو الحل»، وهانى لبيب الذى قبل عضوية حزب العمل تحت نفس الشعار ويقدم كتبه المبسطة طارق البشرى وسليم العوا، هذا هو النموذج القبطى المثالى عند جماعة الإخوان والذين يشيدون دائماً به. وكان الإخوان من أشد المدافعين عن «الخط الهمايونى» طيلة تاريخهم ويرون أنه أنصف المسيحيين ومنح دور الكنائس مميزات كثيرة وأنه كان يهدف بالأساس خدمة حرية العبادة وبناء دورها. وخصصت الجماعة عدة دراسات ومقالات على موقعها الرسمى «إخوان أون لاين»، لتثبت أن الخط الهمايونى أنصف المسيحيين وليس العكس وخلص إلى أن عدد الكنائس ومساحات الأديرة فاق أضعاف حاجة الأقباط تحت ظلال هذا الفرمان، وأن ما يحدث من ترويج ملف الكنائس يهدف لخدمة أهداف وأغراض سياسية بحتة بعيداً عن المطالب والاحتياجات الدينية.