السيدات والسادة.. أتوجه لكم اليوم بدعوة من أجل مؤتمر وطنى شامل تشارك فيه جميع مؤسسات الدولة وقواها السياسية والحزبية ومنظمات المجتمع المدنى وعدد من الخبراء المصريين العاملين فى الخارج من أجل وضع رؤية وطنية مصرية شاملة لإدارة شئون البلاد خلال السنوات المقبلة. إن مصر، يا سادة، هى السيدة على كل من يعيش فيها وينعم بخيرها.. هى مكان يتسع للجميع وروح تسرى فى الجميع.. ومن لا يستشعر هذه السعة وتلك الروح فقد فقد شيئا عزيزا من حب الوطن والسعى من أجل بنائه وازدهاره لنا وللقادمين من بعدنا. إن مصر، يا سادة، هى وطن الجميع، لا مكان فيه لأغلبية وأقلية أو حكومة ومعارضة فى أوقات الأزمات وفى اللحظات المصيرية. لقد جاءت لى التقارير بالعديد من المؤشرات بالغة الدلالة التى لا يمكن أن يتغافلها محب للوطن. أولا: هناك نزوع عند كثيرين للهجرة من المصر، وهذا دليل على أننا لا نتحرك فى الاتجاه الصحيح من وجهة نظر أبنائنا وإخواننا هؤلاء. وبعضهم أصحاب عقول ومهارات يحتاجها الوطن من أجل مستقبل أفضل. ثانيا: هناك نزعة للتعصب فى إبداء الرأى وفى تشويه الآخرين لا يمكن معها أن تكون بيئة ملائمة لديمقراطية حقيقية أو لنهضة جادة. ثالثا: هناك اضطراب سياسى وغياب أجندة وطنية جامعة بشأن أولويات المرحلة، وهناك مطالب تُرفع فى مرحلة ما، وحين يأتى وقت تطبيقها نفاجأ بأن من كانوا يطالبون بها انقلبوا عليها. رابعا: هناك نزعة للترصد والتصيد من الفصائل السياسية المختلفة ومن أجهزة الإعلام والصحف على تنويعاتها، بما يعنى أن الاستقطاب تأصل فينا وتحول إلى احتقان لا بد من علاجه. خامسا: المواطن المصرى البسيط الذى لا تشكل له الصراعات السياسية الهم الأكبر أصبح هو الضحية الحقيقية فى مجتمع انشغلت نخبته بالصراع السياسى عن مطالبه الحقيقية فى مأكل ومسكن ومشفى ومدرسة. وأصبحت النخبة السياسية عبئا على المجتمع بدلا من أن تكون قائدة له. ولا أستثنى من هذه النخبة أحدا، بدءا بشخصى المتواضع. أيها السيدات والسادة.. لن تبدأ مصر فى النهضة الحقيقية إلا حين يتنازل الحاكمون عن عنادهم والمعارضون عن تصيدهم. ولهذا كانت دعوتى لكم كى نعمل معا فى هذا المؤتمر على وضع رؤية وطنية شاملة تعالج مشاكل مصر على المحاور الثلاثة التالية: الأمن والعدالة والمصالحة. وهى مقدمة لما هو قادم وراءها بشأن التنمية والتعليم والسياسة الخارجية. والعبارة الأساسية التى تحكم توجهنا فى المجالات الثلاثة أن الوضع الراهن لا يمكن استمراره ووضع ما قبل الثورة لا يمكن العودة إليه. أما الأمن فالعبارة الأساسية التى تحكم توجهنا فيه أن مصر بحاجة لرؤية أمنية جديدة تقوم على محاور عدة، أترك لكم تفصيلاتها، ولكنها لا تخلو من: أولا: تحول وزارة الداخلية المصرية إلى وزارة لأمن الإنسان المصرى وليس لأمن النظام الحاكم. لا هى تتدخل فى السياسة ولا علاقة لها بالتنافس الحزبى. هى مؤسسة أمنية محترفة وكفى، وفقا لما هو متعارف عليه فى الدول الديمقراطية الحقيقية. ثانيا: إعادة النظر فى القوانين المنظمة لعمل وزارة الداخلية وفقا للمعايير الدولية ووفقا للدراسات الأكاديمية والحقوقية التى قامت بها منظمات حقوق الإنسان المصرية التى تعاونت فيها مع نظرائها فى دول العالم التى سبقتنا فى هذا المجال. إن قوانين التظاهر والاعتصام والإضراب وقوانين مكافحة الشغب وقواعد الاشتباك المطبقة فى الدول الديمقراطية الحقيقية هى نفس القوانين التى تبنتها الكثير من دول الجنوب التى تحولت ديمقراطيا. ونحن لسنا أقل أو أبعد من هؤلاء عن هذا الهدف الذى ينقلنا إلى ساحة الدول المتقدمة فى مجال الأمن. ثالثا: لا بد من توعية الإنسان المصرى بحقوقه وواجباته من خلال حملات إعلامية وتربوية وزيارات ميدانية يقوم بها ضباط «الداخلية» إلى أماكن تجمع المواطنين لتعريفهم بما لهم وما عليهم. فى مصر، التى نريد، لا نريد مواجهات أمنية بين أبنائنا فى جهاز الشرطة وأبنائنا ممن لهم مطالب سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ولا نريد تقاعسا من أى شرطى عن القيام بواجبه. ولا مجال لإطلاق الاتهامات جزافا ضد جهاز كامل بسبب أخطاء بعض أبنائه كما يحدث فى كل أجهزة الدولة، وفى نفس الوقت لا مجال لتجاهل أى أخطاء أو انتهاكات لحقوق المواطنين. أما العدالة، فهى قيمة نبيلة وعملية معقدة تتطلب رؤية ثلاثية أتمنى منكم أن تناقشوها وأن تبنوا عليها إضافة أو حذفا.. أولا: لا ينبغى أن تكون عملية الإصلاح فى قطاع القضاء «مسيسة» أو حزبية.. بعبارة أخرى: أى حديث عن إصلاح القضاء المصرى لا بد أن يكون وفقا لأجندة توافق عليها معظم، إن لم يكن كل، اللاعبين السياسيين الأساسيين بلا سيطرة لطرف على آخر، بل لا بد أن يشارك فيها القضاة أنفسهم. إن القضاء هو الحكم النزيه بين الجميع وعملية إصلاحه لا تعنى «أدلجة» القضاء أو أن يكون خاضعا لفصيل دون آخر. ثانيا: الإصلاح القضائى الأنجح يبدأ فى إطار عمليات التقاضى المختصة بالقضايا الجنائية والتجارية والمدنية وليست السياسية أو الإدارية أو الدستورية؛ حيث إن النوع الأول من المحاكم يكون ساحة جيدة لبناء الثقة ولاختبار حسن التدبر فى كيفية إدارة عملية الإصلاح المؤسسى للقضاء قبل الدخول فى جدل سياسى قد يُحدث انقسامات شديدة بشأن الأنواع الأخرى من المحاكم والقضايا. ثالثا: إصلاح القضاء فى أوقات الأزمات السياسية لن يحل الأزمة السياسية ولن يصلح القضاء. ولهذا أدعو حضراتكم جميعا لأن يكون إصلاح منظومة العدالة جزءا لا يتجزأ من المحور الثالث الخاص بالمصالحة أيضا. أما المحور الثالث، فهو الخاص بالمصالحة الوطنية التى ينبغى أن تكون مصالحة شاملة تقوم على أن توجه كل طاقات المجتمع نحو تجاوز الماضى بقسوته وجرائمه دون أن يكون هناك تساهل مع من تلوثت يداه بدماء.. إن المزيد من السعى لمعاقبة من أخطأوا فى الماضى على هذا النحو الذى يعلى من الثأر الشخصى على حساب قواعد عدالة منضبطة وأمل فى مصالحة حقيقية سيجعلنا ندور فى حلقة مفرغة ولن تتوقف من استنزاف الطاقة المتبادل وتكسير العظام الذى يهدم فرص بناء مصر التى نريد. إن تأخرنا فى وضع آليات واضحة للعدالة والمصالحة ترتب عليه أن شاهدنا من أبنائنا من نزل إلى الشوارع والميادين قائلين: «يا نجيب حقهم يا نموت زيهم». ومن أسف لم يأت حق الشهداء، ولم نحل مشاكل المصابين، لكن فى كل مظاهرة سلمية هناك من يسعى إلى إراقة الدماء ومن ينكأ الجرح القديم بجروح جديدة، ويزيد عدد المصابين والشهداء وهو ما يعنى أننا لم نوافق على كيفية بناء وطن يسعنا جميعا بشكل متحضر. إن مصر بحاجة لمصالحة كبرى أرى عناصرها هى المحاور الأربعة التالية: أولا: مصالحة بين الحكم والمعارضة، وهذا يكون باحترام قواعد الديمقراطية بكل ما تعنيه من احترام ديمقراطية الوصول للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة دورية تنافسية من خلال اقتراع سرى مباشر وفقا لقانون عادل وتحت إشراف قضائى كامل وبمراقبة تامة من منظمات المجتمع المدنى ومندوبى المرشحين، واحترام ديمقراطية ممارسة السلطة وفقا للدستور وفى ظل معارضة سياسية شريفة من الأقلية للأغلبية ورقابة من المحاكم، سواء الإدارية أو الدستورية، كما هو معمول فى كل الدول الديمقراطية، وديمقراطية الخروج من السلطة عبر نفس الآليات. ثانيا: مصالحة بين مؤسسات الدولة المختلفة، وهى مصالحة تزيل أسباب التشكك بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان والمؤسسة القضائية والمؤسسات الأمنية؛ حيث إن كل هذه المؤسسات هى تروس الدولة الرسمية التى ينبغى أن تعمل بتناغم وفقا للدستور والقوانين المنظمة لها. ثالثا: مصالحة بين أجهزة صناعة الرأى العام والقوى السياسية المختلفة وفقا لآليات منضبطة يضعها المجلس الوطنى للإعلام والصحافة بعد أن يتم تشكيله من متخصصين وأكاديميين محايدين حزبيا ووفقا للقوانين المطبقة فى العديد من الدول الديمقراطية التى سبقتنا فى هذا المجال. رابعا: مصالحة بين أجهزة الدولة ورجال الأعمال الذين اضطروا للتعامل مع منظومة الفساد السابقة بعد أن نتأكد من إعمال آليات فض المنازعات مع المستثمرين بما يضمن تحقيق الصالح العام مع ملاحظة أن الصالح العام هو فى أن يستثمر المصريون وغير المصريين أكبر قدر ممكن من الأموال فى الاقتصاد الوطنى. وهذا توجه ينبغى أن تكون له أولوية على ما عداه. أيها السيدات والسادة.. مصر أمانة فى أعناقنا.. وواجبنا أن نسلمها للقادمين بعدنا أفضل مما وجدناها. أيها السيدات والسادة.. أضع بين أيديكم هذه الأمانة الثقيلة كى نتعاون جميعا من أجل مصر أفضل، لنا جميعا. أيها السيدات والسادة.. فلنعمل باطمئنان أن ما سنصل إليه سيتحول فى القريب العاجل كى يصبح السياسة العامة للدولة. وهذا التزام منى بذلك. أيها السيدات والسادة.. ليس بيننا من هو أكثر وطنية من غيره، ولكنْ بيننا تنافس من أجل صالح الإنسان المصرى بدءا بالأفقر والأضعف والأكثر احتياجا لمساندتنا. مصر تقوى حين يقوى أبناؤها وتكون شدتهم فى صالح الوطن وليس ضده. المصريون أقوياء ولكن جهودهم مبعثرة وبأسهم بينهم شديد لأنهم فقدوا الهدف الواحد وهو صالح مصر. مصر كغيرها، والمصريون كغيرهم، ضعهم على طريق التقدم سيتقدمون. وطريق التقدم مرت فيه دول كثيرة وخريطة طريقه رسمت و«كتالوج» التقدم كُتب. علينا أن نلتزم الخريطة وأن نطبق «الكتالوج». توقيع: رئيس الجمهورية هذه فكرة، يمكن أن يكون فيها ما ينفع. أزعم أن هذا هو الحال وأن هذا هو الحل.