) وتوافرت فرصة جيدة للثورة البلشفية أن تطوِّر مسارها، وترمِّم شروخها، وترتق ثقوبها، حين طرح ليون تروتسكى (1879 - 1940) الذى قام بدور بارز فى الثورة من خلال تنظيمه للجيش الأحمر فحسم المعركة لصالح البلاشفة، أفكاراً لمشاركة الجماهير فى صناعة القرار والحد من النزعة الاستبدادية للقيادات، لكن «ستالين» تمكّن من التغلب عليه، عقب وفاة «لينين»، ونفاه عام 1928. وقد كشف «تروتسكى» عورات نظام «ستالين» فى مؤلفه المهم «خيانة الثورة» (The Revolution Betrayed) الذى رأى النور عام 1936، وقام فيه بتشخيص الأمراض التى أصابت النظام الحاكم، ومنها تحكُّم رأسمالية الدولة التى أنشأتها البيروقراطية المعقّدة، والسيطرة المركزية الصارمة على المستويات الدنيا للحزب الشيوعى، وطالب فيه ب«الثورة الدائمة» (Permanent Revolution) التى تقوم على أكتاف طبقة البروليتاريا. ورغم أن التروتسكية جذبت العديد من الجماعات الماركسية التى لم يرق لها النظام الحديدى للحزب، فإنها لم تجد تأييداً واسعاً لها فى أوساط العمال، وظلت الأحزاب الشيوعية على موقفها الرافض لها، ناعتة التروتسكيين بأنهم «مخرّبون» لاسيما بعد أن أدى تجاهلهم إلى إثارة حنقهم وانزلاقهم إلى بعض أعمال العنف. لكن أفكار «تروتسكى» ألهمت شيوعيين فى مختلف أرجاء العالم، وآمن كثيرون بجدواها وقيمتها، وندموا على أنها لم تجد طريقها إلى التطبيق، لاسيما بعد أن أدى الاستبداد إلى انهيار الاتحاد السوفيتى. وهناك من يرى أن الثورة الشعبية الروسية انتهت بحلول مارس 1921 إثر سحق تمرد كرونستاد، وهزيمة المعارضة العمالية، وحظر الفصائل المختلفة فى الرأى والتوجُّه، وذلك فى مؤتمر الحزب العاشر. وعموماً فالديكتاتورية البلشفية تعزّزت، إثر تمكنها عام 1933 من حسم الأمور لصالح «ستالين» بعد أربع سنوات من الشد والجذب مع معارضيه. ولم يقتصر نصر الجناح المستبد على روسيا، بل امتد إلى بلدان شيوعية أخرى، فتم قمع الإصلاحيين فى المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وغيرها، وظل هذا الوضع المختل قائماً، حتى بدأت سلسلة الثورات المخملية فى أوروبا الشرقية ابتداءً من عام 1989، وأدت إلى انهيار النظم الاجتماعية القديمة. ولم تكن محاولة «تروتسكى» هى الوحيدة لتصحيح مسار الثورة البولشفية، بل ظهرت أيديولوجيات اشتراكية عدة سعت إلى القيام بالدور نفسه. فالاشتراكية الديمقراطية، التى حدّدها بيان مؤتمر الدولية الاشتراكية بفرانكفورت عام 1951، رأت أن الاشتراكية ليست نتاجاً طبيعياً للتطور التاريخى، كما تقول الماركسية، إنما هى مثل أعلى أخلاقى تقبله كل طبقات المجتمع. ورفضت الدولية الاشتراكية الصراع الطبقى وديكتاتورية البروليتاريا والثورة والانقلاب، ودعت إلى إعادة تربية بطريقة تجعلهم يقبلون المسار الاشتراكى بشكل طوعى، من دون هدم أسس المجتمع الرأسمالى تماماً. كما أن الاشتراكية الفابية، المنسوبة إلى البريطانى فابيوس كونكتاتور، والتى قامت على أكتاف الجمعية الفابية فى بريطانيا 1884، لم تفقد بريقها، وظل هناك من يؤمنون بفكرتها المركزية التى تنكر صراع الطبقات، وتُعلى من شأن الأفكار فى تحديد حركة التاريخ. وقبلها استمرت الاشتراكية الطوباوية، التى بدأت بأفكار الإنجليزى توماس مور والألمانى سكاد مونزر والإيطالى كامبانيلا، ثم تطوّرت وفق أطروحات الفرنسيين سان سيمون وفورييه والإنجليزى أوين، مذهباً اجتماعياً له أنصاره، الذين يؤمنون بالملكية العامة، التى تقوم على مشاركة الجميع إجبارياً فى عمل جماعى يتوزع حصاده عليهم بالتساوى، وينظرون إلى المعرفة والدين والأخلاق باعتبارها أساس التطوّر الاجتماعى. ورغم سقوط الاتحاد السوفيتى وتعرض الاشتراكية، بوصفها أيديولوجية الثورة الروسية، لانتقادات جارحة، شارك فيها المناهضون لها وأيضاً الماركسيون الجدد، فإنها لم تمت تماماً، ووجدنا دوماً من يفرّق بين النصوص الواردة فى كتب آباء الاشتراكية، وبين التطبيقات التى انحرفت بالكثير من الأفكار التى انطوت عليها هذه الكتب. كما أن العدالة الاجتماعية والمساواة كقيمة مركزية فى الفكر الاشتراكى لن تسقط بالتقادُم، لأنها فى النهاية قيم إنسانية عامة، ستظل قادرة على جذب كثيرين، وهو ما وجد طريقه إلى التحقُّق بعودة الأحزاب اليسارية إلى الحكم فى بعض دول أوروبا وأمريكا اللاتينية، وظهور الطريق الثالث الذى هو تقريباً حاصل قسمة الليبرالية والاشتراكية على اثنين. وقبل كل هذا ستبقى النظرية الماركسية قادرةً على تقديم مداخل منهجية مهمة تساعد فى تفسير الكثير من الصراعات الاجتماعية والدولية. أخبار متعلقة ما بقى من الثورة الروسية (1 - 2)