زمان كان يحكم مصر والٍ اسمه «كافور الإخشيدى» يلقب ب«أبو المسك»، وكان عبداً حبشياً، أسود الوجه، غليظ القسمات، عجيب «السحنة»، بطىء الخطوة. و«كافور» أول «عبد» فى التاريخ يحكم شعباً حراً، إذ اشتراه أحد أهل مصر ليعمل عبداً بها، فإذا به -بقدرة قادر- يصبح حاكماً لها!. وقد اختلف المؤرخون فى تقييم عهده، فمنهم من أكد على عدله، وعلى فضله فى حماية حدود مصر، وهناك من وصف عصره بعصر الكوارث، وأن قدمه على مصر كانت «شوماً»، حيث شهدت -خلال فترة حكمه- العديد من المجاعات بسبب شح النيل، وتراجع الفيضان، وضرب أرضها زلزال عظيم، تشاءم معه الناس من «كافور»، الأمر الذى دفعه إلى الهروب من المدينة واعتزال الناس، ولم ينزل إليهم مرة أخرى، إلا بعد أن خرج أحد الشعراء «المبرراتية»، ممن يجيدون لعب البوق الدعائى، ببيت شعرى قال فيه: «ما زلزلت مصر من خوف يراد بها .. لكنها رقصت من عدله طربا»، بمعنى أن الزلزال الذى ضرب مصر فى عصر «كافور» كان تعبيراً عن حالة الفرح والنشوة بعدله، الأمر الذى دفع أرضها إلى أن «تتحزم وترقص».. فكان الزلزال!. كان «أبو المسك» سخى اليد مع الشعراء، لأنه كان يحب أن يدارى قبح حكمه وراء جميل كلماتهم ومعانيهم، الأمر الذى دفع شاعراً كبيراً مثل «المتنبى» إلى طرق بابه، وأنشأ أبياتاً شعرية بالغ فى مدحه فيها، لكن عم «كافور» كان شحيحاً معه، ولم يجزل له العطاء كما توقع، فاستشاط «المتنبى» غضباً، وتطاير الشرر من كلماته، وأوغل فى «التريقة» على شعب مصر وحاكمها «الإخشيدى». فقد اعتبر «المتنبى» تدين المصريين نموذجاً للتدين الشكلى الساذج، الأمر الذى جعلهم مضحكة بين الشعوب، وقال ذلك شعراً فى البيت الشهير: «أغاية الدين أن تحفوا شواربكم .. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم»، أما «كافور» نفسه فقد هجاه «المتنبى» بواحد من أشهر أبياته الشعرية، قال فيه: «ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة .. ليضحك ربّات الحداد البواكيا»، ويصف هذا البيت «كافور» ك«شخصية كوميدية» قادرة على إضحاك النساء الحزانى اللائى هدهن ألم فراق الأحباب!. كانت لقطة عبقرية تلك التى ربط فيها «المتنبى» بين سيطرة التدين الشكلى على المصريين، واعتلاء «حاكم كوميدى» أو «مضحكاتى» سدة الحكم فى مصر، فعندما يصبح الدين مجموعة من الطقوس الشكلية التى تهتم بالمظهر أكثر من الجوهر، ويختزل إيمان الفرد فى «شوية شعر» نابتين فى وجهه، أو جلباب قصير يرتديه، مع شراسة فى نظرته، ودموية فى مزاجه النفسى، من الطبيعى جداً أن يحكم هؤلاء رئيس: يرسم «الهطل» خريطة وجهه، ويشكل «الهبل» معالم لغته، ويسطع «الخبل» من زوايا عقله وطريقته فى التفكير، لتصبح فائدته الوحيدة هى أن يتفرج عليه الحزانى.. «عشان يضحكوا شوية»!.