القارئ في أحداث التاريخ، يعرف كيف يجابه أحداث الحاضر ويصارع تحديات المستقبل، هذا ما أثبتته لعبة السياسة على مدار الزمن. والعائد إلى عام 1954، تحديدا بعد قيام حركة الضباط الأحرار بثورة يوليو بأقل من عامين، يدرك أن الوضع يقترب كثيرا مما نعيشه هذه الأيام. في ذلك العام كان الصراع محتدما بين فريقين، الأول صورته جماعة الإخوان المسلمين وجناح في الجيش يتزعمه محمد نجيب، ويرى ذلك الفريق ضرورة عودة الجيش إلى ثكناته وإجراء الانتخابات، التي تسلم السلطة للمدنيين. الفريق الثاني كان على رأسه جمال عبد الناصر، ومن يمتلكون النفوذ السياسي ووسائل الإعلام من ضباط الجيش، وكانت تطلب تأجيل الانتخابات، وتقف حائلا أمام رجوع الجيش إلى نقاطه العسكرية من جديد، ومن أهم ما طلبت أيضا تمديد الفترة الانتقالية. وبالعودة لتفاصيل هذا العام نجد أن كثير من الأحداث شكلت ما يعرف بأزمة "1954". 22 فبراير عام 1954 قام محمد نجيب بتقديم استقالته من مجلس قيادة الثورة، بعد أن استشعر غياب الهدف الأساسي للثورة، والبدء في تقليص دوره. وبعدها بثلاثة أيام، تحديداً 25 فبراير، أصدر مجلس قيادة الثورة مرسوماً يعلن فيه عزل محمد نجيب من منصبه، وحاول البيان تشويه صورة نجيب، وذكر أنه أراد الحصول على سلطات أكبر من منصبه. وبمجرّد إعلان قرار الإقالة، اندلعت المظاهرات في شتى بقاع مصر، خاصةً الجامعات، تطالب بعودة نجيب لمنصبه، وقد تحقق مطلبهم بعد اعتصامات عديدة، بدأت للصدفة يوم الجمعة أيضا. - 5 مارس كانت ضربة البداية، في الأزمة التي تعرف بأزمة مارس، من جانب محمد نجيب الذي بدء فور عودته إلي الحكم مشاوراته مع مجلس القيادة للتعجيل بعودة الحياة البرلمانية، وفي ليلة 5 مارس صدرت قرارات ركزت على ضرورة عقد جمعية لمناقشة الدستور الجديد وإقراره، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وبداية حياة مدنية حقيقية تحقق هدف الثورة. - 25 مارس 1954 اجتمع مجلس قيادة الثورة كاملا وانتهى الاجتماع إلى إصدار القرارات التالية: السماح بقيام الأحزاب، مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزبا، لا حرمان من الحقوق السياسية حتي لا يكون هناك تأثير على الانتخابات، تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا دون تعيين أي فرد وتكون لها سلطة البرلمان كاملة، والانتخابات تكون حرة، حل مجلس الثورة في 24 يوليو باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة، تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها. 28 مارس 1954 خرجت أغرب مظاهرات في التاريخ تهتف بسقوط الديمقراطية والأحزاب، ودارت المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة وكررت هتافات "لا أحزاب ولا برلمان"، ووصلت الخطة السوداء ذروتها، عندما قام صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل بدفعهم إلي عمل إضراب يشل حركة المواصلات، وشاركهم فيها عدد كبير من النقابات العمالية، وخرج المتظاهرون يهتفون "تسقط الديمقراطية.. تسقط الحرية". - 26 أكتوبر 1954 كان حادث المنشية بالإسكندرية، إذ كان جمال عبد الناصر يخطب في ميدان المنشية، وانطلقت رصاصات مجهولة تريد اغتياله، لكنها فشلت في ذلك، وأكمل عبد الناصر خطابه بحماسة منقطعة النظير، لكن الانتقام كان قد بدأ نذيره مع جماعة الإخوان المسلمين، إذ إن الحادث قد جاء بعد استمرار المناوشات بين جماعة الإخوان المسلمين من ناحية، ونظام عبد الناصر من ناحية أخرى. وعبأ الإعلام السياسي آنذاك أن الإخوان هم أصحاب محاولة الاغتيال، فتم القبض على قيادات الإخوان المسلمين وزج بهم في غياهب المعتقلات. - 14 نوفمبر 1954، كان الستار مسدلاً على آخر محاولة لبناء دولة مدنية ديمقراطية، وقيام تعددية الأحزاب وحرية الصحافة، إذ صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بإقالة محمد نجيب، وتضمن القرار مادتين هما "المادة الأولى: يعفى السيد الرئيس اللواء أ.ح محمد نجيب من جميع المناصب التي يشغلها، على أن يبقى منصب رئاسة الجمهورية شاغرا. المادة الثانية: يستمر مجلس قيادة الثورة بقيادة السيد الرئيس البكباشى أ.ح جمال عبدالناصر في تولي كافة سلطاته الحالية". ما أشبه الليلة بالبارحة، فبعد ربيع بين المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين، يطالب حزب الحرية والعدالة الممثل للجماعة بحل الحكومة، ثم بعد ذلك تحدث أزمة اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور، ثم القرار الأخير بحل ثلث البرلمان، وتضارب أنباء عن حل مجلس الشعب بالكامل، لتدخل العلاقة إطار خريفي، وتعود صورة عام 1954 للأذهان من جديد.