جاء فى مجلة (ليبراسيون) الفرنسية أن انتخابات رياسة الجمهورية فى مصر، أشبه بشوارع القاهرة؛ تقصد بذلك أنها تجرى فى فوضى وعدم نظام يستعصى على الحل والتنظيم. وقد تسلّفت المجلة بذلك ما قاله موشى ديان وزير دفاع إسرائيل من قبل، فلقد قال: «أنا لا أهتم بكمّ ما تحصل عليه مصر من أسلحة، لكنى أنزعج بشدة لو انتظم المرور فى شوارع القاهرة». بهذا صارت الفوضى والاضطراب وعدم التزام القانون فى شوارع القاهرة مثلاً يجرى على التعبير عن أية فوضى أخرى فى مصر، حتى ولو كانت تتعلق بانتخابات رياسة الجمهورية أو اقتناء الأسلحة الحديثة. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فبعد معاهدة السلام مع إسرائيل، حضر إلى مصر موشى ديان (صاحب المقولة التى أصبحت مثلاً)، وكان آثارياً يرغب فى زيارة آثار مصر، وخاصة قبور الملوك فى الضفة الغربية من مدينة الأقصر، وقد ظل ينتقل من مقبرة إلى مقبرة، ثم خرج إلى الفندق الذى كان يقيم به وهو واجم صامت لا يتكلم من ذهوله لما رأى، ولما سئل عن سبب حالته تلك، قال إن الشعب الذى ينشئ حضارة كهذه، يمكنه أن يقيمها مرة أخرى. وهكذا شهدت لمصر وشعبها آثارُها الفرعونية، بينما شهدت عليها شوارع القاهرة. ولعله يكون من الغريب -لمن لا يعرف- أن الحضارة فى مصر، كما أن شعبها، كان الإيمان بالله عنده يقترن بما يسمى بمبدأ ماعت (وهى فتاة وجيهة تمثل العدالة)، ومن مصر انتقلت هذه الفتاة إلى أنحاء المعمورة، وهى تحمل ميزان العدالة فى يدها، وعيناها معصوبتان، حتى تحكم بالعدل دون أن ترى الخصوم. و«مبدأ ماعت» هذا كان يتحصل فى عبارة محددة، هو: «الحق والعدل والاستقامة والنظام». وقد انتقل هذا المبدأ مع المصريين الذين بنوا لابنة الفرعون (التى تزوجها سليمان بن داود) قصراً ومعبداً؛ ذلك أن سفر الأمثال المنسوب إلى سليمان قد حوى وطوى فى أسطره كلمة مبدأ ماعت: «الحق والعدل والاستقامة»، وإن كان قد رفع كلمة النظام، كذلك فقد ظهر هذا المبدأ للمرة الأولى فى مزامير داود. خلال الدراسة قرأت كتاب «فجر الضمير» لجيمس هنرى برستيد الأمريكى من أصل يهودى، فراعتنى جملة كتبها -تظل تدوى فى التاريخ وفى الناس-: «إن سقوط مبدأ ماعت كان أكبر كارثة حدثت فى تاريخ الإنسانية». وقد تبينت على المدى أنه عرف الحق وسطره. فقد راع الكتائب الرومانية التى كانت تأتمر بأمر الكنيسة الكاثوليكية، أن لاهوت المسيحية مماثل للاهوت المصرى عن أوزير (إدريس)، فعملت على إخفائه عن المصريين وغيرهم بتغيير كتابتهم (المحفورة على المعابد أو المكتوبة فى لفائف من الورق البردى) من الهيروغليفية (وتعنى حرفياً: الكتابة المقدسة) إلى إكراه المصريين على أن يكتبوا لغتهم (الفرعونية) بحروف يونانية، ومع الوقت نسى المصريون كتابتهم فلم يعد فيهم من يعرفها. ثم جاء التحول الثانى فى عهد الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله إذ فرض على اليهود والمسيحيين المصريين ألا يتكلموا بغير العربية، وهدد بقطع لسان من يتكلم باللغة المصرية (الفرعونية). بهذا وذاك اغترب المصريون عن استنطاق آثارهم، فغاب عنهم المبدأ الأول (الحق والعدل والاستقامة والنظام)، وغيب الأعراب البدو مفهوم النظام تماماً، لأنهم لا يعرفونه ولا يستسيغون معناه. لكن بقى مبدأ ماعت فى إيمانهم، فالمسيحى يقرأ فى الإنجيل أن سيدة قالت للسيد المسيح: «يا معلم، إننا نعرف أنك تعلم بالاستقامة»، وقال السيد المسيح: «تعرفون الحق والحق يحرركم». أما فى الإسلام فقد وردت كلمة الاستقامة كثيراً، نتخير منها الآية: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة). فهل يعود باقى المبدأ، وهو النظام، إلى مصر والمصريين، فيظهر من أبنائها من يقيم حضارة شامخة أصيلة كحضارة الفراعنة، وهو ما تخوف منه وتنبأ به موشى ديان؟