سيدة ستينية ترتدى جلباباً فضفاضاً، تجلس على أحد سلالم مدخل منزل يتوسط قرية «زاوية رزين» بالمنوفية، تمسك فى يديها «جركن» كبير، تذهب بعينيها يميناً ويساراً، تبحث فى كل ركن عن عربة «المياه النظيفة»، وفجأة يظهر شاب يرتدى جلباباً، يحمل على ظهر «تروسيكل» فنطاساً للمياه، يهرع الأطفال ناحيته، يمد كل منهم كلتا يديه ناحيته، يد بها «جركن» صغير ويقبض فى الأخرى بكل ما أوتى من قوة على «جنيه» ثمن المياه. وسط تسابق الصبية على الفوز ب«جركن» مياه تنادى العجوز على أىٍّ منهم ليأخذ منها «الجركن» ويملأه لها، دون جدوى، وما هى إلا دقائق حتى يعلن سائق «التروسيكل» عن نفاد كمية المياه التى كانت معه، وينطلق مسرعاً إلى حيث لا تستطيع عينى العجوز أن تطوله، فلا تجد أمامها إلا انتظار عودته فى مرة أخرى، ربما يكون حظها أوفر. «الوطن» زارت قرى مجاورة لقرية «صنصفط» التى عايشت مأساةً فى عيد الفطر، بعد تسمُّم مياه الشرب فيها وإصابة آلاف من سكانها.. «رزين» و«سدود» قريتان يعيش أهلهما مأساة ليس فقط بحكم جيرتهما ل«صنصفط» أو لرعب ملأ قلبهم لما أصاب جيرانهم، لكن لأنهم لا يستطيعون شرب المياه التى تأتيهم فى الصنابير، ويصفونها «لها لون ورائحة وليس لها طعم»، إحدى الأمهات تمسك رضيعها، وفى يدها زجاجة مياه معدنية، تؤكد أن الطبيب منعها من أن تسقيه من مياه «الحنفية»، تقول سعاد عبدالرازق «ابنى عنده سنة ونص كان كل شوية يتوجّع من بطنه ولما رُحت للدكتور قال لى ماتشربيهوش من المياه دى، وهاتيله ميه معدنية». الأزمة ذاتها يعيشها محمد خالد، أحد أهالى «رزين»، فأبناؤه جميعهم يصابون بألم شديد فى المعدة كلما شربوا من مياه الصنبور، لذا يلجأ الرجل إلى شراء جركن مياه للشرب بجنيه واحد من أىًّ من المحطات الأهلية التى افتتحها بعض أهالى القرية ويقومون فيها بتنقية المياه التى تأتيهم من المحطة الحكومية وبيعها للأهالى». محمد سالم، أحد العاملين فى محطة أهلية لتنقية المياه فى القرية، يعمل على توصيل المياه إلى المنازل «دليفرى»، حتى لا يتسبب الإقبال على المحطات فى تكدُّس طوابير من الأطفال والآباء والأمهات الراغبين فى شراء المياه. يقول «محمد»: «أبيع الجركن بجنيه ونص والكولمان بجنيه، واللى مابيقدرش يروح يقف فى الطوابير بيكلمنى عشان آجى أوصل لهم المياه لحد البيت». محل صغير يتوسط القرية تجمع حوله بعض الأهالى يحملون فى أيديهم جراكن كتبوا عليها أسماءهم حتى لا تضيع منهم بفعل الزحام، وبصوت عالٍ أخذ الجميع ينادى «جركن مياه يا حاج بسيونى». الحاج على البسيونى، هو أحد أصحاب محطات المياه الأهلية داخل القرية، يقول «هذا المشروع كلفنا ما يقرب من 100 ألف جنيه، لتجهيز المحل بالمعدات والأجهزة اللازمة لتنقية المياه، وعن طريق ترمومتر نقيس نسبة الأملاح فى المياه، فنجدها قبل التنقية تصل فى بعض الأحيان إلى 400، ولكن بعد استخدام أجهزتنا لتنقيتها تصل إلى 32 فقط». وأضاف: «نحن لا نعرف شيئاً عن مشكلة محطة مياه الشرب الحكومية، لكن إحنا المياه بتاعتنا زى الفل»، ورفض أن نرحل قبل أن يُجرى تجربة عملية أمامنا، قاس فيها نسبة الأملاح فى كوب مياه أحضره له أحد الجيران من صنبور منزله، فوصل وفقاً للترمومتر إلى 300، وبقياس المياه بنفس الترمومتر من صنبور محطة مياه الحاج بسيونى وصل إلى 32. لم يختلف حال قرية «سدود» كثيراً عن الحال الذى رصدناه فى «رزين»، فالأهالى هناك يلجأون إلى شراء المياه كل يوم، وذلك رغم وجود محطة مياه حكومية للقرية، وهذا ما يفسره المهندس عبدالكريم عبدالغنى مدير المحطة، قائلاً «الأهالى هنا يعتقدون أن المياه ملوثة، لذا يلجأون إلى شرائها، لكن المحطة لدينا تقوم بتنقية المياه، وتُراعى فيها نسبة التعقيم والنقاء، كما أن لدينا معملاً خاصاً بالمحطة نقوم فيه بتحليل المياه كل ساعة، كما تقوم بالدور نفسه وزارة الصحة أيضاً. لكن يبدو أن حديث مدير المحطة لا يَلقى أى مصداقية لدى أهالى القرية، وهو ما جعل فاطمة، إحدى سكان القرية، مصابة بفيروس «سى» تحمل جركن المياه على رأسها كل يوم وتتجه به إلى أقرب محطة أهلية لشراء المياه. السيدة الأربعينية تصف المياه التى تأتى إلى منزلها، قائلة «المياه طعمها وحش أوى واحنا تعبانين منها ومش هنستنى لما يحصلنا زىّ ما حصل لأهالى صنصفط». عبدالمحسن قاسم، أحد أهالى القرية، وضع ابنه أمامه على الدراجة، وجركن كبير كاد أن يُخفى الولد تماماً، وتوقف أمام محطة مياه أهلية لشراء المياه، ويقول «إحنا من يوم ما اتولدنا والمياه طعمها مش كويس وبنشتريها وتعبنا ومرضنا، بس مش عاوزين ولادنا يشوفوا نفس المصير، عشان كده نفسنا يوصلولنا مياه نضيفة يا إما يبطلوا ياخدوا مننا فلوس فاتورة المياه اللى مابنشربهاش». أخبار متعلقة «سيدى خميس».. بركة «المنايفة» وعدو السلفيين