تُتابع الكاتبة والمخرجة، عطيات الأبنودى فى كتابها: «السينما الثالثة» الذى صدر مؤخراً عن المجلس الأعلى للثقافة، محاولات السينمائيين والنقاد، على مدى أكثر من خمسين عاماً، للخروج من عباءة السينما الاستهلاكية السائدة التى تُزيّف وعى الجماهير، وتعمل على تكريس الواقع، وتؤجل الثورة على النظم الديكتاتورية والاستبدادية. فى مقدمة الكتاب الذى يقترب من خمسمائة صفحة، ترى الكاتبة أن وصف السينما بالأولى أو الثانية أو الثالثة لا يتعلق بالدرجة وإنما بالنوعية، ف«الأولى» هى من أرسى النظام الذى يرى أن السينما مجرد عروض للتسلية والترفيه، لها نجومها التى تتبناهم أو تصنِّعهم، ويلعب المتفرج فيها دوراً سلبياً ويهرب، فيها، وبها من مشكلاته اليومية، وقد تسيَّدت هذه السينما الشارع السينمائى وما زالت قادرة على الاستمرار بفضل استيعاب صنَّاعها للتقنيات الحديثة. «السينما الثانية»، هى محاولات الخروج على النظام الأول، بدأت مع ظهور تيار «الواقعية الجديدة» فى إيطاليا بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية بفيلم روبرتو روسيللينى «روما مدينة مفتوحة» 1945، الذى دشَّن فكرة خروج الكاميرا إلى الشوارع والعمل مع ممثلين غير محترفين والاعتماد على الحوار التلقائى. فى عام 1959، ومع عرض فيلم «هيروشيما حبيبى» لألان رينيه، كان الخروج الكبير على تقاليد السينما الأولى بظهور «الموجة الجديدة الفرنسية» أو «سينما المؤلف»، التى ترى أن للمخرج دور أساسى فى العملية الإبداعية، «فهو كاتب النص السينمائى للشاشة مباشرة وقدَّمت، هذه الموجة، أشكالاً ومحتوى فكرياً وطريقة للسرد كلّها جديدة وغير تقليدية، واعتُبرت مرحلةً هامة فى مواجهة السينما الهوليوودية»، وفى عام 1961، عُرض فيلم جان لوك جودار، «على آخر نفس» الذى اعتبره النقّاد التأسيس الفكرى والتطبيقى للموجة الجديدة الفرنسية». لم تقف المؤلفة عند السينما الروائية فقط، بل تناولت حركات التجديد فى السينما التسجيلية بدءاً من الفيلم القصير «بوريناج» للمخرج الهولندى يوريس إيڤنز مروراً بإبداعات السينما الحرة فى بريطانيا و«سينما المقالة» للفرنسى كريس ماركر و«سينما الحقيقة» لجان روش، متابعة ومحللة، بدقة وعمق، لأعمال فنانيها. «السينما الثالثة» فى رأى عطيات، هى الخروج على النظامين السابقين، وبحسب ألمانيفستو، الذى أطلقه السينمائيان الأرجنتينيان «فرناندو سولاناس وأوكتاڤيو خيتينو» فى نهاية ستينات القرن الماضى، هى سينما «لايحددها نوع الفيلم -روائيا أو تسجيلياً- ولا الاتجاه السياسى وإنما بكيف ترى العالم، وهى سينما شعبية تعبّر عن إرادة التحرر، وتقف ضد الخرافة، والتمييز العنصرى وهى البديل المباشر للسينما الأولى والثانية على خلفية أيديولوجية وباختصار يعمل فنانوها على تقديم فن سينمائى ثورى يقوم بدوره فى المجتمع، وقد تراجعت هذه السينما فى السنوات التالية، وتعزو الكاتبة أسباب تراجعها وعدم استمرارها -رغم توجهاتها النبيلة- إلى فشل معظم الثورات المسلحة التى كانت هذه السينما من أدواتها الرئيسية، وأن الكثير من أفلامها لم يصل إلى جمهورها المستهدف الحقيقى. تتسم صفحات الكتاب، رغم الإسهاب، بالموضوعية فى الطرح، والانحياز فى الرؤية، فالمؤلفة ليست مجرد راصد سلبى لتاريخ السينما، بل منحازة -بجلاء- لتيارات التجديد ولسينما الإنسان البسيط والطبقات الكادحة المكافحة فى العالم الثالث، لكنها، مع تقديرها الرفيع للفنان الكبير شادى عبدالسلام الذى رأت أنه «تجربة فريدة فى السينما العالمية» كان عليها أن تتروى قليلاً فى حكمها القاسى غير المنصف على تجربة «جماعة السينما الجديدة» فى مصر والتى وصفتها بأنها «مجرد جماعة إصلاحية توقفت مطالب أعضائها عند انتزاع بعض فرص العمل» واعتبرتها «سحابة انقشعت من سماء السينما المصرية»، دون أن تحاول وضع التجربة فى سياقها التاريخى، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وأن تجتهد فى البحث عن أسباب انحسارها التى قد تتشابه مع ماحاق بالسينما الثالثة! فى تقديمه الموجز الرشيق للكتاب، يرى الصديق العزيز الناقد السينمائى كمال رمزى -عن حق- أنه «أنشودة تبجيل عذبة لتاريخ السينما، بموجاته الفكرية، وتطوراته الصناعية وعلاقته بالقضايا المعتملة فى الواقع».. كتاب يستحق القراءة، وجهد جدير بالتقدير.