كان نشيدا يوميّا نتغنى به فى أحلامنا وأسمارنا، انتظارا لذلك الزمن الذى يأتى فيه رجال المرحلة؛ ليعبروا بالسفينة إلى شاطئ الأمان، وهم يحفظون «أصولها»، و«سبيلها» التى تقصدها، و«قبلتها» التى لا تبديل لها.. ولكن! جفَّت هذه الأحلام أمام شمس الحقيقة «العارية» وهى تمدّ لهبها المضىء كاشفا قسمات «الإخاء الجديد»، وصورة الأيدى -«التى كانت متوضئة»- وهى تُمسك الفئوس لتقتلعَ الألواحَ شيئا فشيئا، وتضرب «أصول» السفينة، لا لتعيبَها فتنجوَ بها مَنقوصَةً، ولكن لكى تُقَدِّم السفينةَ بمن فيها قُربانا للملك الذى يأخذ كل سفينة غَصْبا! وفجأة، بقينا وحدَنا والأخشاب متناثرة على عتبات الموج حولنا، وفى كل شىء معنى الغرق، بعد أن تداعت «الأصول»، وذهبت «الثوابت»، وماجت بنا الدنيا، وصرنا صيداً نضيجاً لكل كاذب أو كاتب يضعنا فى قفص الاتهام والهوان! وأما السخرية المرة فأن تتلاشى السفينة، وتبقى متناثرةً أخشابُها على صفحة الماء «المالح»، فيخرج بعض فلاسفة العصر ليقرر أن السفينة بخير، وأنها باقية على «أصولها»، ونحن مُصرّون على الاحتفاظ «بروح السفينة ومبادئها الكلية»! ونسى «الدوق» المبجل أن البحر لا يُخاض «ببعض» سفينة، أو «بمعنى السفينة»، وأن بقاء السفينة لا يكون بإقامة الصفقة مع الملك الغاصب، الذى لا يرضى بشىء، إلا أن تكون فى حوزته وتحت سلطانه و«شريعته»، فليس لك من السفينة إلا ما أقرَّه ذلك الطاغية المستبد! دعنى أعبر بك إلى بر الإبانة والإفصاح لكشف الزيف الذى قام به «القبطان»، وهو يقتلع ألواح السفينة كلها بفقه «الموازنات والمواءمات الجديد»، بعيداً عن الاحتكام للشريعة، فأقول: إن مصادمة الشريعة، هى فى الحقيقة أكبرُ ظلم يتعرض له «الإنسان»؛ لأنها «النموذج الوحيد التام» الذى جاء بكل ما يجعل الإنسان حرّاً كريماً مُطلقاً من كل الأغلال والقيود بصورها جميعا من أحكام وأعراف وتقاليدَ و«أفكار» تستعبده وتجافى كينونته الحرةَ البيضاء! وكل ما أصاب الإنسانَ من قهر وعنت وفساد واستبداد وظلم مُظلم هو لغياب ضوء هذه الشريعة الربانية، حتى بتفصيلاتها الصغيرة الدقيقة التى تحولت عند بعض العقول الضيقة إلى «قشور!»، وما هى فى الحقيقة عند ذوى البصيرة إلا تأكيدٌ لمبدأ «حرية الإنسان» فى ممارسة كل متاح له فى فضاء الوحى الإلهى الجليل، بعيداً عن قيود البشرية التى قامت على الاستبداد والفساد! وقد علم أحرار وعباقرة هذه الحقيقة، وصبروا عليها، وكم نحتتهم الآلام والأيام وما زادهم ذلك إلا ثباتا وصدقا فى الإبانة عن شرف الرسالة وجلال الشريعة بلا نقصان. حتى إذا دار الزمان، وخرج الذين حُبسوا من أجل شعار الإسلام، أصرَّ (بعضهم) على الإبقاء عليه «كشعار»! فجَعله تابعا للشعب «مصدر السلطات»، وتبرع فزاده الشعب نعتا جديدا: «ومصدر التشريع»! وهنا تبرز الإشكالية العتيقة فى ثنائية الجماعة/ الدين، أو الحزب/ الدين، والتى لن تُسْلِم الرؤيةَ من عثراتِ الولاء، وازدواجية الانتماء.. والمُشَاهَد -فى الغالب- أن الانتماء البشرى يصبُغ الدينىَّ صِبغتَه المحدودةَ الضيقةَ القاصرةَ، مما يُفتت الكُلِّىَّ العامَ الشاملَ (السفينة)، إلى زوايا متناثرة قاصرة «أخشابها»، تحُدّ الفِكر، وتُشَوِّش الغَاية، وتفَرِّق الصَّفَّ. وعندها سنخرج من دائرة الخلاف السائغ إلى هاوية الفُرقَة الأليمة؛ لأنه لن يبقى بعد ذلك أصول ولا ثوابت!