لمس الدكتور رشدي سعيد، أبو الجيولوجيا المصرية، بكلماته البسيطة والعميقة المشكلة الأهم التي تواجهها مصر في أحد حواراته الصحفية، وهي مشكلة التعليم، وذلك من خلال معاصرته للفترات الناصرية والساداتية والمباركية، معتبرًا أن المشكلة واحدة تتكرر في كل العصور. وقال سعيد إن مصر بها مشكلة كبيرة جدًا، ليست مقصورة على البحث العلمي فقط وإنما على التعليم عمومًا، فيكاد الإنسان أن يقول إنه لا يوجد تعليم في مصر. "خلاص.. انتهى. لو كان عندك ولاد، بياخدوا دروس خصوصية علشان التعليم ضعيف والمدارس لا تعمل والمدرسون لا يعملون والأحوال سيئة جدًا في التعليم، والجامعات والبحث العلمي في حالة سيئة جدًا، فأهم حاجة في الجامعة أن تكون معهدًا (للبحث العلمي) قبل أن تكون معهدًا (للتدريس)، فالبحث العلمي جزء أساسي من التعليم الجامعي، وإذا لم يكن لديك بحث علمي فلن يكون لديك بحث جامعة، هذا إلى جانب عدم وجود إنفاق عليه، لأننا ننقل كل شيء من الخارج". قابل رشدي سعيد العالم المصري الكبير علي مصطفى مشرفة، متخذًا إياه قدوة يحذو حذوه في المراحل العلمية العميقة والمبكرة، حيث التحق أبو الجيولوجيا المصرية بكلية العلوم جامعة القاهرة عام 1937 وتخرج في 1941، ليرشحه مشرفة لمنصب رئيس شركة القصير للفوسفات، حيث أعاد تنظيم إدارة الشركة مرتفعًا بدخلها لأضعاف المعتاد، كما ترأَّس مؤسسة التعدين عام 1968، وحولها لمؤسسة تستخدم أحدث الطرق العلمية في البحث والكشف عن ثروات مصر المعدنية، بعد أن كانت من مخلفات شركات القطاع الخاص عند تأميمه. اختار سعيد تخصصًا نادرًا ليشهد نبوغه العلمي؛ هو مجال "جيولوجيا مصر"، وأصدر فيه كتبًا عديدة بالإنجليزية والعربية؛ منها "ملاحظات تفسيرية في اصطحاب خريطة مصر الجيولوجية" و"الحقيقة والوهم في الواقع المصري" و"جيولوجيا ما تحت سطح منطقة القاهرة" و"رحلة عمر.. ثروات مصر بين عبدالناصر والسادات" و"التطور الجيولوجي لنهر النيل" و"نهر النيل.. نشأته واستخدام مياهه في الماضي والمستقبل"، والأخير مجلد كبير يعد من أبرز المراجع العلمية عن النيل. العلم والسياسة لا يجتمعان في معظم الأوقات إلا وقضا أحدهما على الآخر. حينما سعى رشدي سعيد إلى الدخول في عالم السياسة، ليصبح عضوًا في مجلس الشعب ومجلس الاتحاد البرلماني الدولي، وأعلن رفضه لسياسة الضباط الأحرار في تجاهل الأقباط في مصر، وتشبث برأيه في عهد السادات أيضًا، لتظل نقطة الخلاف واحدة هي عدم الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي في مصر، نالت منه قبضة قرارات الاعتقال، فاعتُقل عام 1988 ليخرج باحثًا عن فرصة للهروب من مصر، ما اضطره لبيع مكتبته العلمية حتى يستطيع العيش في الولاياتالمتحدة. "نهر النيل" و"وادي النيل" هما قضيتا رشدي سعيد، اللتان عاش حياته آملًا في الارتقاء بهما حتى يرتقي بالإنسان المصري. تنبأ بمشكلة مصر مع إثيوبيا في قضية نهر النيل، مشيرًا إلى اتفاقية 1959 التي وقعت بين مصر والسودان لتحديد كيفية استخدام النهر، ومؤكدًا في أحد حواراته أن الاتفاقية أهملت بلد المنبع لأن إثيوبيا حينها كانت أصغر عددًا في السكان من حالها الآن، لكنها حاولت حفظ حقها بالبند الموجود في الاتفاقية، الذي ينص على أنه "عندما يظهر أن هناك طرفًا ثالثًا يطالب بالمياه، سيجتمع الطرفان الموقعان وهما مصر والسودان للنظر في طلبه، وذلك لاقتطاع جزء من حصتهما لإعطائها للدولة الثالثة". كانت حياة رشدي سعيد صاخبة مليئة بالأبحاث العلمية والإنجازات الاجتماعية وحفلات التكريم، حيث كرَّمه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في عام 1962، وسلَّمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وحصل على جائزة الريادة لعام 2003 من الجمعية الأمريكية لجيولوجي البترول، تقديرا لأعماله العلمية في مجال جيولوجيا مصر والشرق الأوسط، التي وصفتها الجمعية بأنها فتحت آفاقًا جديدة لتطبيق هذا العلم في مجال البحث عن البترول في المنطقة، إلا أنه اختار الموت هادئًا في واشنطنبالولاياتالمتحدةالأمريكية أمس عن عمر يناهز 93 عامًا، ويتم تشييع جنازته الاثنين المقبل من الكنيسة الأرثوذكسية القبطية "سانت مارك" بولاية فرجينيا. جدير بالذكر أن أبو الجيولوجيا المصرية من مواليد 1922 بحي القللي بشبرا، وتعود جذوره إلى محافظة أسيوط، ودرَّس في جامعات القاهرة وزيوريخ وهارفارد، حيث يعد أول مصري يحصل على الدكتوراة من جامعة هارفارد، واشتهر ب"عميد المجتمع المصري" في واشنطن، منذ رحيلها إليها عام 1981.