هى مصر فى أزهى صورها، طفلة صغيرة مدللة متمردة، عمرها من عمر «القنال»، من هذه البقعة مر الخليل إبراهيم وزوجته سارة قادمين إلى مصر، ومنها عبر إخوة يوسف، وعلى مقربة منها سارت العائلة المقدسة، فيها تجتمع مصر بلهجاتها المختلفة من الصعيد إلى الدلتا وحتى محافظات المتوسط، استوطنها منذ نشأتها عام 1860 أهالى دمياط والشرقية والدقهلية، والقادمون من أعالى النيل، فامتزجت ثقافاتهم وعاداتهم وأخرجت المواطن البورسعيدى، ومنذ نشأة قناة السويس، وعلى مدار قرابة 150 عاما، أضيفت إلى تلك الثقافة الجديدة ثقافات الأرض جميعها من خلال 50 ألف سفينة تمر عليها سنويا فتترك كل منها بصمة وأثرا يتحولان بفعل «بورسعيد» إلى مصطلح أو عادة أو نمط حياة، فأصبحت مركزا ثقافيا متفردا فى قلب مصر. كانت الموضة تأتى من بورسعيد، وجهاز العروس، والأطعمة المستوردة، والأجهزة الكهربية الحديثة، والفتاكة وخفة الدم والنكات، كانت البهجة والتمرد والرجولة والفشخرة، حتى باتت أرض التناقضات بلا منازع. هى أرض السيد عسران، ذاك الشاب الذى انضم للمقاومة الشعبية وقت العدوان الثلاثى، ثم نصب كمينا للكولونيل جون وليامز، قائد الاستخبارات البريطانية ببورسعيد، وألقى قنبلة داخل سيارته فانفجرت داخلها وبترت ساقه وتوفى بعد ذلك متأثرا بجراحه. وأرض البطل محمد مهران، الذى كان من قوات الحرس الوطنى المنوط بها الدفاع عن منطقة مطار الجميل، ولما قررت القوات البريطانية إسقاط قوات مظلية فى هذه المنطقة، تصدى لها مع زملائه، إلا أنه وقع فى الأسر ونقلوه بالطائرة إلى قبرص؛ حيث عذبوه واقتلعوا عينيه وهو الآن محاضر بمتحف بورسعيد الحربى. هى أرض جواد حسنى، طالب الحقوق الذى أسره الفرنسيون يوم 16 نوفمبر 1956 بعد أن تصدى لهم بمدفعه بمفرده وسجنوه بغرفة صغيرة، فخط قصته بدمائه على حوائطها، وتعرض لتعذيب قاس حتى يعترف، إلا أنه رفض الإدلاء بأية معلومات فأوحوا إليه أنهم سيطلقون سراحه، وأثناء سيره أطلقوا النار عليه فاستشهد فى الثامن من ديسمبر 1956. من قصص هؤلاء كتب نزار قبانى رائعته «رسالة جندى فى جبهة السويس»: هذى الرسالة، يا أبى، من بورسعيد أمرٌ جديد.. لكتيبتى الأولى ببدء المعركة هبط المظليون خلف خطوطنا.. أمرٌ جديد.. هبطوا كأرتال الجراد.. كسرب غربانٍ مبيد النصف بعد الواحدة.. وعلىَّ أن أنهى الرسالة أنا ذاهبٌ لمهمتى لأرد قطاع الطريق.. وسارقى حريتى خطب عبدالناصر فى شعبها: «أعطيتم العالم كله -أيها الإخوة- هذا المثل.. وقدمتم الشهداء حتى يستطيع هذا الوطن أن يعيش حياة حرة كريمة، وحتى تستطيع بلادنا أن تخلق المجتمع الجديد، المجتمع الذى ترفرف عليه الرفاهية». وقال جيفارا: «من أرضكم استمد ثوار أمريكا اللاتينية القوة، لقد منحتنا بورسعيد العزيمة لتحرير كوبا». وقال عنها أحمد بن بيلا، قائد ثوار الجزائر: «بورسعيد قبلة النضال العالمى». وعندما زارتها جميلة بوحريد قالت: «وأنا فى بورسعيد أشعر وكأن رأسى يتجاوز السحاب؛ لأننى أسير على أرض الأبطال». وبعدما انتصر شعبها على العدوان قال نزار: مات الجراد أبتاه، ماتت كل أسراب الجراد لم تبق سيدةٌ، ولا طفلٌ، ولا شيخٌ قعيد فى الريف، فى المدن الكبيرة، فى الصعيد إلا وشارك، يا أبى فى حرق أسراب الجراد فى سحقه.. فى ذبحه حتى الوريد هذى الرسالة، يا أبى، من بورسعيد من حيث تمتزج البطولة بالجراح وبالحديد من مصنع الأبطال، أكتب يا أبى من بورسعيد. * هذا المقال إلى الطرفين: من يهين بورسعيد ولا يعتبر بما قدمته لشعب مصر، ومن ينتسبون إليها ولا يقدرون تاريخها فيسيئون إليها جهلا بغير علم.