وتمتد بنا هذه الدراسة إلى بدايات عصر النهضة الحديثة فى مصر، عندما شعرت قيادات مصرية بضرورة الدعوة إلى مصرية مصر واحترام تاريخها وحضارتها والنهوض بها فى طريق العلم والعقل والتقدم.. ومن حق رفاعة الطهطاوى أن نقر له برؤيته المتعمقة لطبيعة ومنبع الحضارة الفرعونية. وفى كتابه «مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية» يقول «كانت مصر أيام الفراعنة أم أمم الدنيا وكانت شوكة سلاحها قوية، وهيبتها فى القلوب متمكنة عليه، ومصر أم الحضارات لم تسبقها أمة فى ميدان المدنية ولا فى حرفة تقنين القوانين وتشريع الأحكام ولم تجحد نعمة اقتباس علومها أمة عاقلة». وإذا كان أبونا رفاعة الطهطاوى قد أبدى سخطه على المصريين الذين وصفوا آثار الفراعنة بأنها مساخيط، وعلى عزيز مصر لأنه لم يدرك قيمة هذا التراث وأخذ يبعثره كهدايا لمن شاء من أصدقائه الأجانب، فإن جيمس هنرى بريستيد يواصل غضبه لأن أجيالاً متعاقبة من المصريين أمعنت فى تدمير هذه الآثار، ويروى كيف عثر على حجر شديد الأهمية لدى بعض القرويين استخدموه كقاعدة لحجر طاحونة لطحن الغلال، وظلوا لسنوات عديدة يديرونه غير مدركين أنهم يمحون نقوشاً بالغة الأهمية (بريستيد- فجر الضمير ص48). لكن اللافت للنظر أن الصفحة الأولى من الطبعة العربية لكتاب بريستيد قد غمرتها اقتباسات فرعونية تتحدث جميعها عن قيمة العدل وضرورة التمسك به، ونقرأ: ■ يعترف بفضل الرجل الذى يتخذ العدالة نبراساً له «الوزير الأكبر بتاح حتب». ■ إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الإله من قربان الرجل الظالم «من وصية والد الأمير مرى كارع». ■ إن العدالة خالدة الذكرى، فهى تنزل مع من يقيمها إلى القبر، ولكن اسمه لا يمحى من الأرض، بل يبقى على مر السنين بسبب العدل (الفلاح الفصيح). أما الوزير وسركاف فقد كان اسمه الرسمى «مقيم العدالة». ويقول بريستيد: إن العقل كان قيمة أساسية عند الفراعنة، فكان القلب هو العقل، والعقل قوة منشئة للكلمة التى تعلن الفكرة فتلبسها ثوب الحقيقة. ويحدثنا بريستيد عن أن المصرى القديم أقام فلسفته فى الحياة على تجسيد الأفكار، فهو لم ينظر إلى المبادئ الأخلاقية فى شكل كلمات مجردة، أو قيم كلامية، بل فى صور مجسمة فهو لا يفكر فى السرقة، وإنما فى السارق نفسه، ولا يفكر فى الحب، وإنما فى المحب، ولا يفكر فى الفقر، وإنما فى الرجل الفقير. لهذا «فإن انبثاق الوازع الأخلاقى من العلاقات الأسرية قد برز فى صورة مجسدة تتلخص فى الاحترام الشديد للأب، والتقدير الكامل للأم، بما تجسد كذلك فى مواقف تجسدت فيها كل معانى الاحترام والمساواة للمرأة». فعندما تصور المصرى القديم وجود أرباب تصور معها وعلى الفور وجود ربات، وكذلك ملوك وملكات، كهنة وكاهنات، وحتى فى المهن المختلفة، ففى إحدى مصاطب الأسرة الرابعة دفنت سيدة وهى «بسشت» وكان لقبها رئيسة الطبيبات، وهناك «تشات» التى كانت وكيلة أملاك الحاكم، لكن الأهم من ذلك هو كيف يعامل الرجل زوجته. يقول الحكيم آنى: «لا تكن فظاً نحو المرأة فى بيتها عندما تعرف أنه حسن الترتيب، لا تقل لها أين ذلك الشىء لأنها وضعته فى المكان المناسب، والآن وأنت مفعم بالسعادة ضع يدك فى يدها، فهناك كثير من الناس لا يعرف كيف يتصرف الرجل مع المرأة». وللمرأة نصيب كبير فى ميراث الرجل، ففى وصية «نيكاورع» ( ابن خوفو) أوصى لزوجته بنصيب يفوق نصيب كل ولد من أولاده. أما ماسبيرو فيقول فى كتابه «الحياة فى مصر القديمة»: «المرأة المصرية كانت أكثر احتراماً وأكثر استقلالية من أى امرأة أخرى فى العالم». أما الباحث الفرنسى باتوريه فيقول «لم تكن سلطة المرأة فى مصر تستند إلى فكرة الأم، وإنما كانت تستند إلى فكرة المرأة ذاتها، وكانوا يطلقون عليها (بانيت)، أى ربة البيت. وهى مساوية للرجل سواء فى الأسرة أو فى المجتمع وتتمتع بأهلية قانونية كاملة بمجرد بلوغها سن الرشد». أما ديودور الصقلى فيقول: «عند المصريين القدامى كان للملكة من القوة والمجد أكثر مما للملك، ويتعهد العريس عند الزواج بأن يستمع إلى رأى زوجته فى جميع الأمور». كذلك تمسك المصريون القدماء بحرية الاعتقاد الدينى، فعندما توحدت البلاد تحت حكومة واحدة لم يسع أحد لتوحيد المعتقدات، بل تركت كل مقاطعة محتفظة بمعتقداتها ومعبوداتها الخاصة، ولم يحدث أى ضغط فى هذا الصدد إلا فى ظل إخناتون، لكن دعوته هذه انتهت بنهايته وعاد المصريون كل لمعتقده ومعبوده الخاص به. وكان المصرى القديم يعرف مقومات الحضارة، ويعرف أن اختفاء هذه المقومات سيؤدى إلى انهيارها، ويعتبرون أن التخلى عن هذه المقومات سيؤدى إلى غضب «رع»، ومن ثم إلى خراب كل شىء، ونقرأ فى معجم الحضارة المصرية القديمة هذه التحذيرات القاسية: ■ إذا غضب رع على أرض نسى حاكمها العرف. ■ إذا غضب رع على أرض عطل القانون فيها. ■ إذا غضب رع على أرض عطل العدالة فيها. ■ إذا غضب رع على أرض أضاع الثقة فيها. ■ إذا غضب رع على أرض جعل أغبياءها فوق علمائها. .. لقد حذرونا منذ زمن طويل، لكننا لم نستمع إلى النصيحة.