أصبح بعض المتدينين اليوم يصور للناس أن الدين هو تقطيب الجبين والسب واللعن والتفحش والغلظة، وينسون بذلك قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق فى شىء إلا زانه، ولا نزع من شىء إلا شانه». وقد وضع الشيخ فريد الأنصارى رحمه الله تعالى تعريفاً رائقاً جميلاً للعقيدة فقال: «إنها ميثاق المحبة بين الله وعباده». يالجمال هذه العبارة التى تجعل عَلاقة الناس بربهم ودينهم هى عَلاقة الحب الباعث على الخشية والتوبة والإنابة والرجوع الدائم إليه سبحانه، فلا مفر منه إلا إليه فهو القريب المجيب الذى قال عنه حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حين وقف يوماً مع أصحابه فرأى امرأة تحمل صغيراً لها بحب فقال للصحابة: أترون هذه طارحة ولدها فى النار؟ قالوا: لا والذى بعثك بالحق يا رسول الله. فقال النبى: فالله أرحم بعباده من هذه بولدها. هذه الرحمة الربانية التى نزل جزء واحد منها إلى الأرض وبقى تسعة وتسعون جزءاً فى السماء، فبهذا الجزء الذى نزل إلى الأرض تتراحم المخلوقات جميعاً إلى قيام الساعة. كيف إذا بهذه الأجزاء التسعة والتسعين وكيف هى رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده؟ إن هذه الرحمة الربانية بالعباد أصلها حب الله تعالى للعبد حتى يقول النبى صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء. إن الملائكة كما جاء فى الأثر تستأذن ربها أن تهلك أهل الكفر والإجرام والظلم من البشر، فيقول لهم ربنا سبحانه: «دعونى وخلقى، لو خلقتموهم لرحمتموهم». إنها رسالة إلى كل المنفرين عن طريق الله سبحانه، إياكم وما تفعلون فربكم يقول: «لو خلقتموهم لرحمتموهم». وما أنتم بآلهة ولكننا جميعاً بشر ضعيف حالنا، نحتاج إلى التعرض لرضوان الله وعفوه وحلمه ورحمته فلنعد إليه بالحب ولنحببه إلى خلقه فهذا والله أعظم القربات. ثم إن مقام حب الله سبحانه لا ينافى مقام الخوف منه فالمحب الحقيقى الصادق يخاف من الحرمان، ويخشى من العقوبة بقدر ما يرجو ويشتاق؛ فإذا جرد العبدُ المحبةَ عن الخوف والرجاء كان من الكاذبين، كيف لا وقد قال الله تعالى عن صفوة من أنبيائه: {إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. إن السائر إلى الله تعالى يلزمه جناحان هما الخوف والرجاء، وقلب الخوف والرجاء والباعث عليهما هو الحب، فلا يخاف الإنسان غضب من لا يحبه ولا يرجو رضا من لا يحبه. أختم كلامى بهذا القول النفيس الذى تشد إليه الرحال للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله إذ يقول: «لو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله؛ فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل. فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه.. ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هى حقيقة الإخلاص، بل هى نفس الإسلام، فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله؛ فمن لا محبة له لا إسلام له ألبتة». وهى حقيقة شهادة ألا إله إلا الله؛ فإن (الإله): هو الذى يؤلهه العباد حباً وذلاً، وخوفاً ورجاء، وتعظيماً وطاعة له، بمعنى (مألوه): وهو الذى تألهه القلوب. أى تحبه وتذل له؛ فالمحبة حقيقة العبودية.