«فى ظهيرة ذلك الاثنين، الخامس من حزيران 1967، أصابتنى الغربة..ها أنا أمشى بحقيبتى الصغيرة على الجسر، الذى لا يزيد طوله عن بضعة أمتار من الخشب، وثلاثين عاماً من الغربة.. كيف استطاعت هذه القطعة الخشبية الداكنة أن تُقصى أمةً بأكملها عن أحلامها؟!». كان هذا قبسا من رواية الأستاذ مريد البرغوثى البديعة: «رأيت رام الله»، وهى الرواية المسكونة بأشجان الغربة، وزيتونة الحنين إلى الديار العتيقة هنالك فى فلسطين؛ حيث يتحول الزمن إلى حُلُم دافئ يُعَاش بالخفقات والدموع معاً! وكانت هذه الرواية/القصيدة حدثاً استثنائيا فى عالم مريد البرغوثى، وكان أكثر ما يمطرك بالدهشة هو هذا العبور الفريد على جسر العودة إلى الوطن، وهو مقطعٌ مسروقٌ من نعيم الجنة؛ كلما فَنِىَ جماله تجدَّد! إنه الحنين! لا يدع للمحبِّ سكناً إلى شىء لا يحمله إلى المحبوب، فهو فى ارتحال دائم، لا يفارق حقيبته، ولا يلتفت عن غايته، مهما تكاثرت الزخارف والأضواء فى مهرجان الحياة! وكل مساومة ببديل، لا تجد لها أصداء فى نفس هذا المغترب المسافر؛ لأن المادة لا تروى ظمأ الروح ولا عطش الفؤاد، وهذا هو السر الذى تقف بين يديه المادة عاجزة بائسة! وكم أحب ها هنا قول الرافعى الملهم (رحمه الله): إذا لم تكثر الأشياء الكثيرةُ فى النفس، كثُرت السعادة ولو من قِلَّة؛ فالطفل يقلِّب عينيه فى نساء كثيرات، ولكنَّ أمَّه هى أجملهن وإن كانت شوهاء! وحجر الزاوية فى هذا كله عندى الصدق، الذى يحمل صاحبه على ترك التلون والثبات على صراطه والاستخفاف بما يعترضه من عقبات إذا كانت فى سبيل الوصول إلى غايته الشريفة؛ لأنه يعلم أن هذا الألم عابرٌ ولا بد؛ وهذه الأزمنة منقضية لا محالة؛ فليس لديه قابليةٌ للاستقالة من أخلاقه، أو التنكر لعقيدته، أو الاستعداد للمساومة «بحق العودة» إلى وطنه الأول الذى فارقه منذ قديم الآباد! هذه هى المعادلة باختصار: شخصٌ فارق وطنه، وهو يبذل كل جهده فى سبيل الوصول الآمن إليه، وشخصٌ آخر نسى وطنه، واستقال من الانتماء إليه، ومزَّق بطاقة هُوُيَّتِه أمام شهوة فانية، أو لذة عارضة، أو صراع على شىء سيرتحل عن صاحبه، أو سيرحل عنه صاحبه، ولا مانعَ لديهِ من التحول عن «إنسانيته» التى فطره الله عليها، والالتحاق بخانة «السِّلَع» التى تقبل الشراء والبيع والمساومة والاستغلال، كما يقول الدكتور الكبير عبدالوهاب المسيرى (رحمه الله). والناس جميعا متفقون -إلا من فقد أبجدية التفكير- على أن اشتغال المغترب بكل ما يُدنيه من دياره ليس مثالية فارغة، ولا وقوعا تحت طائلة الوهم، ولا هروبا من الواقع الذى تحول فى غفلة الإنسان إلى إحدى أيقونات القداسة التى لا تُمَسُّ ولا تُغَيَّر، حتى صار «الصدق» شيئاً غريباً فى حياتنا، وتبعه فى الغرابة -مثلاً- أن يكون المرء أميناً، أو طاهرَ السر، أو صادق الحب، أو نقىَّ الضمير، وإن أخطأ، مع أن هذه كلها من قواعد العودة الآمنة إلى الوطن العتيق! ولن تستطيع هذه القطعة الدنيوية الخشبية الداكنة -وإن آذانا الآخرون فى عبورنا عليها- أن تُقصى أمةً بأكملها عن أحلامها.. عن وطنها.. هنالك فى الجنة!