لا شك عندى أن أيام الأعياد مرت شديدة الوطأة على المصريين المغتربين بالخارج. الحنين إلى الأصل غريزة فى معظم الأحياء: الأسماك، الطيور، الإنسان. ومعظم الشعر الجاهلى يبدأ بالبكاء على الأطلال. وحفظت لنا ذاكرة العرب هذا البيت النادر فى الحنين إلى مكة التى كانت تسكنها قبيلة جرهم قبل أن تطردهم منها خزاعة: «كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا/ أنيس، ولم يسمر بمكة سامرُ». ............ أترككم الآن مع هذه الرسالة المؤثرة للسيدة دينا سعيد، المدرس المساعد بقسم الكمبيوتر، جامعة كالجرى بكندا، التى تتحدث بلسان العاشقين لوطنهم، وأفئدة المغتربين جميعا: يتعجب المصريون المقيمون بمصر الذين لم يبرحوها قط من إحساس المصريين خارجها بالغربة. يقولون: كيف تفتقدون مصر بتلوثها وفسادها وجهلها وفوضاها؟. ويعجبون حينما يعرفون أنه حتى هؤلاء الذين استقدموا أمهاتهم وزوجاتهم مازالوا يشعرون بالغربة!!. يتخيلون أن سبب الغربة هو اختلاف اللغة أو الدين، ولكن يدهشهم أنه حتى المغتربين فى البلاد العربية يطحنهم الحنين طحنا. مرارة تجعل أى فرحة منقوصة، وتبكيك فى أعظم لحظاتك انتصارا، كلما شاهدت شيئا يوقظ الحنين فى روحك: ذكرى منسية، صورة رقمية، أو فيلما سينمائيا تشاهد فيه شوارع مدينتك، فتنساب دموعك صبابةً واشتياقا. ............ يعجبون ويقولون: «تعيشون فى بلاد نظيفة متقدمة، تُعاملون فيها أحسن معاملة، ويلقى أولادكم أفضل رعاية، فماذا تريدون بعد ذلك؟!». لا يعرفون أن الأمر يشبه رجلا يحب فتاة بكل جوارحه، ولكنها لا تحبه وتسىء معاملته، فى حين تحبه فتاة أخرى تتمنى له الرضا ليرضى، ولكنه لا يُلقى لها بالاً لأن قلبه متيم بالأخرى. وكلما اغترف من عطائها تألم لأنه كان يتمناه من حبيبته. هكذا حالنا فى الغربة: كلما شاهدنا موقفا حضاريا، أو مشينا فى شوارع نظيفة، أو ركبنا أتوبيسا يأتى فى موعده بالثانية، نتألم ونتساءل: «لماذا لا ينعم أهلنا بذلك؟». وكلما أعطانا البلد الذى نعيش فيه، تمنينا أن نحصل على عشر هذا العطاء من أمنا الحقيقية. ............... وأشد لحظات غربتنا إيلاماً تلك التى يصل فيها المغترب إلى حالة الإنكار. يخرج من بيته متخيلاً أنه يمشى فى طرقات بلده، يركب الحافلة متخيلا أنها حافلة بلده، مثل عبدالحليم حافظ الذى كان يرى وجه لبنى عبدالعزيز على الوسادة المجاورة بدلا من زوجته!!. ثم يُفاجأ بشخصين يتحدثان الإنجليزية فينظر إليهما فى تعجب، ثم يفيق من حلمه. ويُصدم أنه الأجنبى، حتى لو تجنس بجنسيتهم. .......... الغربة إحساس مرير، حتى لو قضى المرء فى غربته عشرين عاماً. يظل يحن إلى الأصل، مثل السمك الذى يعيش فى حوض الزينة. أنيق ونظيف وفاخر الأطعمة، ولكن من قال إن هذا يرضيه! يلتصق بالحوض الزجاجى ليختلس النظر إلى بعيد، داعياً الله عز وجل أن يعيده يوماً إلى البحر الواسع، موطنه الأصلى. [email protected]