هذا إذن هو اللقاء الأخير فى سلسلة حاولنا فيها أن نتعرف إلى بعض ملامح المنهج الذى ينبغى اتباعه فى التعامل مع الفتن، وتوقفنا فى اللقاء السابق مع تصرف يُعتبر هو الوقود الذى يزيد نار الفتنة اشتعالاً، ألا وهو داء نشر الأخبار بغير تثبت ولا تأكد من مصدرها ولا من مدى صحتها. والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) لذلك فإن إعادة نشر كل كلام يصل إلى الإنسان هو من قلة عقله وسوء تصرفه؛ إذ ما كل ما يسمعه صحيح، وإن كان صحيحاً فليس كله يصلح للنشر، وليس كل ما يُعرف يقال كما يقولون. إن النبى صلى الله عليه وسلم يقول: {كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع}. وعلى ذكر الكذب ونشر الأخبار بغير تأكيد وتمحيص فإن بعض أصدقائنا يقول: «الفيس بوك أغلق باب التوبة»، فيتعجب الناس من ذلك، فيكمل هذا الصديق كلامه بأن الإنسان يقول الكلمة فيه صدقاً أو كذباً فتطير فى الآفاق وقد تصل إلى مئآت الآلاف بل وربما الملايين فى دقائق معدودات. وفى هذه الحالة يكون الأمر أخطر وتكون العناية بآية «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا» أوجب؛ ذلك أن الجميع يستطيع أن يقول ولكن دورك أنت أن تميز ما ينبغى أن يقال وما لا ينبغى. كم من فتنة تكون بدايتها كلمة أطلقها إنسان غير مسئول سالت بسببها بعد ذلك الكثير والكثير من دماء الناس بغير ذنب ولا جريرة للأسف الشديد. إذن، فمن أوجب الواجبات فى زمان الفتن أن يمسك الواحد منا عليه لسانه، فإن الكلمة إن كتمتها ملكتها وإن أطلقتها ملكتك كما يقولون. وعليه فإن التدابير العاجلة والواجبة من أجل الخروج من الفتنة تتلخص فى الآتى: أولاً: التوقف فوراً عن أى شكل من أشكال الإيذاء اللفظى كالسخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والسباب والتفحش، فإن ذلك كله من مظاهر الجاهلية، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. ثانياً: حسن الظن بالمسلمين؛ فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه، ولو كان ظاهرهما متشابهاً. ثالثاً: ضرورة حفظ ذات البين وعدم السماح للمشكلات بتدمير شبكة العلاقات الاجتماعية فى المجتمع الإسلامى. رابعاً: التمهل كثيراً قبل نشر الأخبار الواردة ومحاولة التأكد من صحتها أولاً، خصوصاً مع التطور الشديد الحاصل فى وسائل التواصل الاجتماعى ونقل المعلومات. بمراعاة هذه الوسائل الأربع تكون الفتنة قد هدأت وانحصرت غالباً فى نطاق ضيق وتحدد الموضوع محل الخلاف بشكل واضح، ساعتها يأتى الدور على الخطوة الأخيرة فى حل النزاع والوصول إلى حل نهائى تلتزم جميع الأطراف بقبوله ألا وهو رد الأمر محل الخلاف إلى الله والرسول (أى إلى القرآن والسنة)، وإنهاء النزاع بالقضاء الشرعى. وإذا لم يكن رسول الله بيننا اليوم بجسده فإنه بيننا بسنته التى حفظها العلماء وفهموها فاستحقوا أن يكونوا هم حقاً ورثة الأنبياء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر». رواه ابن ماجة.