طالب فى الصف الثالث الإعدادى اعتاد على الذهاب لمدارس الأحد بالكنيسة، يوم الخميس، ليرى فى إحدى المرات الجميع فى الكنيسة يبكى، بعد أن أمر الزعيم الراحل أنور السادات بتحديد إقامة البابا شنودة فى دير الأنبا بيشوى، لينبت فيه حب البابا حينها ويدفعه للبحث عن محاضراته وسماعها للدرجة التى يكاد يحفظ فيها كل كلمات البابا، تعلق بالبابا دون أن يراه وتمنى رؤيته، لتتغير الظروف بعدها ويصبح المهندس عماد نصرى هو المصور الخاص بالبابا على مدار ما يقرب من 30 عاماً، تناولتها «الوطن» فى حوارها معه مع حلول الذكرى الرابعة لرحيل البابا. مصور البابا شنودة: اشتريت أول كاميرا من فلوسه ■ ما سر تعلقك بالبابا منذ طفولتك وقبل رؤيتك له؟ - تعودت على الذهاب لمدارس الأحد فى صغرى، وفى فترة ما وجدت الناس بالكنيسة يبكون ويصلون دائماً لعودة البابا بعدما نفاه «السادات» وأرجعه إلى الدير ثانية، لم أدرك الأمر حينها جيداً، ولكنى تعلقت بالبابا وسمعت عظاته ومحاضراته عن «الأسرة المسيحية» و«يستجيب لك الرب فى كل حين» و«شاكرين فى كل حال» و«إلى متى يا رب تنسانى» وحفظت كلماته، فأحببت البابا وتعلقت به وتمنيت أن أراه من أسلوبه الذى كان السهل الممتنع، كلمات بسيطة إلا أنها عميقة جداً. ■ وكيف توصلت للبابا وأصبحت المصور الخاص به؟ - علمت من خلال مواظبتى على اجتماع الشباب بكنيسة السيدة العذراء فى شبرا، أن البابا سيعود مع بداية العام، وبدأت الكنيسة فى التحضير لاستقباله من خلال طبع كارنيهات، فعملت كارنيهاً، وأول مرة دخلت فيها المقر كان هناك عدد هائل من الناس، وكنت بعيداً جداً عن البابا، فلمحت أحدهم قريباً جداً من البابا ومعه كاميرا ويقوم بالتصوير، ففكرت فى التصوير حتى أتمكن من رؤية البابا عن قرب، وبدأت أستعير الكاميرا الخاصة ب«خالى» وأصور بها، التصوير مرة بعد مرة جعل شكلى مألوفاً لدى البابا، ويرانى عند التصوير لدرجة أنه فى الزحام إذا اصطدم بى أحد يخبره بالابتعاد عنى، حتى ظنوا أنى قريب له من دفاعه عنى، ولم أتخيل أنه يلاحظنى وأنا مجرد طالب صغير فى الثانوية، وبدأت من هنا تصوير البابا. فى عام 1989، كان البابا مسافراً لألمانيا وطلب منى أصور مجموعة صور، بعدها سألنى كيف أنفق على التصوير والصور فأخبرته باجتهادى فى التصوير، ففهم أنه لا أحد يرعانى من الناحية المادية، فرغب فى إعطائى مبلغاً، كنت محرجاً جداً من أخذه، إلا أنه صاح فى قائلاً «اسمع الكلام»، فأعطانى ألف جنيه، وكان حينها مبلغاً كبيراً، فاشتريت به أول كاميرا خاصة بى. ■ إذاً أول كاميرا لك كانت من مال البابا؟ - فعلاً، وكان ذلك بعد عدة سنوات كنت أستعير فيها الكاميرا الخاصة بخالى، أو كاميرا صاحب أحد المعامل فى شبرا، وأشترى أفلاماً وأصور فى الأعياد ثم أعيدها ثانية. ■ كم كان عمرك حينها؟ - لم أكمل عامى العشرين حينما بدأت تصوير البابا، وكانوا يحملوننى على أكتافهم حتى أتمكن من التصوير، حيث كنت قصيراً إلى حد ما، إلا أن حبى للبابا هو ما أحببنى فى التصوير واتخذته وسيلة للتقرب منه. ■ كيف تخليت عن مجال دراستك من أجل البابا؟ - بعدما أنهيت دراستى الجامعية فى الفنون التطبيقية، طلبت من البابا العمل كمهندس فى النسيج، إلا أنه قال لى «خليك فى التصوير أحسن، مش كل مهندس ناجح، لكن أنت مصور ناجح، فأنا شايف إنك تكمل فى التصوير»، واعتبرت نفسى محظوظاً بسبب قربى من إنسان كالبابا شنودة، فلم يكن عادياً مطلقاً إنما كان «إنساناً» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لم يتلفظ بسوء قط، ولم يغضب إلا فى الحق، فكان ودوداً له أصدقاء فى جميع المجالات والأماكن، وكانت ذاكرته قوية جداً. ■ من خلال قربك للبابا.. كيف لمست قوة ذاكرته؟ - كان يوزع عيدية وشوكولاته فى الأعياد، وتأتى له الأسر من كل الأماكن لتعيّد عليه وتتبرك منه، فكانت إذا أخبرته أسرة ما برؤيته خلال زيارة ما، يتأنى دقيقة ثم يضرب بعصاه على الأرض وينظر لهم ويحكى لهم عن تفاصيل الزيارة كما لو أنها كانت بالأمس رغم مرور سنوات عليها، ويسترجع ذكريات تلك الزيارة وكأنه كمبيوتر يحتفظ بمعلوماتها التفصيلية، فكانت ذاكرته قوية جداً، ويحكى لنا أنه وهو طالب كان ينظر للصفحة قليلاً ليحفظها عن ظهر قلب وكأنها طٌبعت فى ذاكرته، وكان مشهوراً فى الكلية ب«نظير جيد جداً». ■ وماذا عن روح وخفة دم البابا؟ - نفسية البابا دائماً كانت صافية بعيداً عن الكره، وهو ما جعله يستخلص من أى موقف فكاهة أو دعابة، ففى إحدى المرات دعت شركة طيران ألمانية البابا لزيارة مقرها بالزمالك، فقال لهم «يعنى أجيلكوا الزمالك وأزعل الأهلى؟»، وفى مرة أخرى سأل شخص صعيدى «انت منين؟» فأجابه «من دشنا» ليرد عليه البابا بضحك «من دشنا ولا من ديش العدو»، وذات مرة أيام التحفظ على البابا فى الدير، كان يلقى بالكلمات الروحية على الرهبان والعاملين بالدير، فأخبره عامل بسيط «انت جاموس يا سيدنا» فرد عليه البابا قائلاً بدعابة «أيوه يا بنى بس فين العجول اللى تفهم». وجه البابا كان «فوتوجونيك» ولقّبنى ب «صاحب الكاميرا الشقية» وإلى جانب خفة دم البابا كانت لديه سرعة بديهة، فأتذكر الندوات التى كان يقيمها نادى «الروتارى» وكان يلقى فيها البابا كلمة اجتماعية كل مرة عن السلام أو الهدوء أو المحبة وغيرها، فى إحداها حيا نائب رئيس الروتارى البابا عن المحاضرة السابقة له حول السلام، وكان البابا فى هذه المرة محضراً كلمته عن السلام أيضاً، فطلب حينها فنجان قهوة وحضّر نقاطاً رئيسية لكلمة أخرى، ولم يخبرنا بذلك سوى بعد عودتنا. ■ وما طقوس البابا فى أسبوع الآلام؟ - كنا نذهب مع البابا يوم السبت إلى دير الأمير تادرس بحارة الروم، ويكون يوماً بمثابة العيد فى الدير، يرّسم فيه راهبات بالدير، ويجلس مع راهبات الدير يستمع لأسئلتهن الروحية ويجيب عنها، ويوم السبت معروف باسم «سبت لعازر» إلا أن البابا كان يسميه «سبت الأمير»، ثم نعود للمقر البابوى ليأخذ البابا متعلقاته وأدويته وننطلق إلى دير الأنبا بيشوى، ويكون الأنبا صرابامون رئيس الدير والآباء والرهبان فى استقباله، ويُجهز أوتوبيساً ممتلئاً بالورود يطوف به البابا فى مسافة صغيرة لا تستغرق ربع ساعة فى وقت لا يقل عن 3 ساعات من تزاحم الناس الذين يصل عددهم فى هذا اليوم إلى أكثر من 10 آلاف شخص، للتبرك منه والاحتفال بأحد الشعانين، وكانوا يهتفون له فرحين «بابا شنودة يا مليح.. يا للى اختارك المسيح» و«بالطول بالعرض البابا زى الورد». ويكون البابا من نصف يوم الأحد ثم الاثنين «حابس»، أى معتكف فى غرفته يكتب المقالات الخاصة بالعيد، فكان يكتب لجرائد عديدة منها «الأخبار والأهرام والجمهورية، والكرازة، والمهجر» وغيرها، حوالى 10 مقالات مختلفة عن بعضها يكتبها البابا عن نفس الموضوع. يوم الثلاثاء يأتى رئيس دير البراموس وبعض الأساقفة يصلون مع البابا، ثم يجلس البابا شنودة يعطى العيدية للعمال الذين يتجاوز عددهم 400 عامل، إلى جانب الرهبان والآباء الكهنة، ثم يعود إلى المقر لغسيل الكلى ويتوجه بعدها لدير الأنبا بيشوى، ويتوجه بعدها لدير السريان حيث ترهبن، ونعود ثانية للمقر، ونتوجه للكنيسة المرقسية بالإسكندرية، ليعّيد على العمال وأخوة الرب «المحتاجين»، ويساعدهم جميعاً، ويعود للمقر لاستقبال زيارات العيد من منتصف يوم السبت ليلة العيد، ويحضر بعدها القداس. ■ وماذا عن البابا فى الكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية؟ - كان يقابل البابا جميع من يأتون إليه، وكان يعرفهم بالاسم، وخصص مكتباً للعمال يقابلونه فيه وفقاً لكشف، يعّيد عليهم ويساعد من يحتاج، وفى إحدى المرات، التى ذهبنا فيها إلى «كنيسة سبورتنج»، وجدت بالكنيسة عدداً مهولاً من الناس ورغم ذلك يجلسون فى هدوء غير معهود، وعندما سألت عن سبب ذلك علمت أن فى السبعينات كانت هناك أحاديث جانبية وضوضاء أثناء حديث البابا، فأخبرهم إن تكرر هذا الأمر ثانية لن يأتى إلى كنيستهم مرة أخرى، ومن وقتها يسود الهدوء فى الكنيسة رغم التزاحم. ■ وكيف كان يعبر البابا عن حبه لمصر؟ - البابا كان محباً لمصر بشكل فوق الوصف، حتى إنه فى سفره للخارج كان لا يغير توقيت ساعته، فكان يقول دائماً إنه مرتبط بتوقيت مصر، ومواقف البابا تبرهن على حبه الجم لبلده، التى أبرزها فى مقولته «مصر ليست وطناً نعيش فيه، إنما وطن يعيش فينا». ■ هل رافقت البابا فى كل سفرياته؟ - نعم سافرت مع البابا معظم سفرياته فى محافظات مصر، وكانت دائرة العمل المحيطة بالبابا ترجع للراحة عند سفره، حيث إن العمل معه شاق جداً، وفى الخارج سافرت مع البابا إلى إنجلترا فى 2008 لمدة 3 أيام لم نذق فيها راحة، حيث زار خلالها 3 دول، وكان البابا لا يهدأ فى عمله، فسافرنا مرة إلى إريتريا ليرسم هناك بطريرك، وكانت هناك فترة راحة «ريست» 4 ساعات فذهب خلالها للسودان وزار أم درمان والخرطوم. ولم أنس فى إحدى زيارات البابا إلى سوهاج لافتتاح دير الأنبا شنودة، فأقاموا له مكان سكن، صممته مهندسة، وكان البابا راهباً جداً فى حياته، فبمجرد دخوله لهذا السكن أصبح بمثابة قلايته «غرفته الخاصة للصلاة والتعبد»، وجُرحت حينها ونزفت بسبب التزاحم، ودخلت إلى سكن البابا لأغسل الجرح، فسمعت البابا ينهر المهندسة التى صممت المكان بسبب دخولها لتسلم عليه قائلاً لها: «يا بنتى إيه اللى دخلك هنا، مايصحش تدخلى هنا، هنا مكان خاص بالآباء الرهبان»، لذا قفزت من الشرفة من ثانى دور حتى لا ينهرنى البابا. ■ فيمَ كان يستغل البابا فترة نفيه بدير الأنبا بيشوى؟ - استغل البابا فترة تحديد إقامته فى الدير فى المحاضرات الروحية وكتابة الكتب، حتى بلغت مكتبة البابا من الكتب التى ألفها أكثر من 140 كتاباً فى مختلف المجالات، يتناولها البابا باستفاضة وتدقيق. ■ هل أحب البابا الكاميرا والتصوير؟ - البابا كان مسمينى «صاحب الكاميرا الشقية»، وبطبيعة كونه صحفياً فكان يفهم الصورة جيداً، وكان يحضر حوالى 20 لقاء فى الأسبوع أصورها جميعاً، ولكن لا يرى الصور كلها، فوقته كان لا يسمح، وإنما أقوم بفلترتها ويختار هو الصور التى تنشر مثلاً فى مجلة الكرازة، وكان يختار الصور التى تضم كل ضيوفه، فلا يختار صورة مستبعداً فيها أحد الضيوف حتى لو جميلة. وجه البابا «فوتوجونيك» كان يجعل صوره كلها جميلة فى كل حالاته، وهو يبتسم وهو يصلى وهو متوتر بسبب موضوع ما، فكان وجهه طفولياً يساعد على الجمال الصورى، وقمت بتصوير البابا كل الصور التى كنت أريد تصويرها، وكنت أتواصل معه بالعين أثناء التصوير، فأعرف إذا نظر لى يكون متضايقاً من أمر ما، إذا تصرف وكأنه لم يأخذ باله معناه أتقدم فى التصوير، وكان يكتفى من التصوير وقتما ألتقط الكادرات التى أحتاجها. ■ هل تتذكر أنه علّق على صور أعجبته؟ - كثيراً، وكان يعلق صورة فى مقره بدير الأنبا بيشوى، التقطتها له يوم نياحة الأنبا باسيليوس، مطران القدس، واقترحت على البابا بتجميع أغلب الصور التى صورتها له بمفرده ونشرها فى كتاب يتضمن صوراً للبابا وكلمات له، ووافق على الفكرة إلا أنه طلب عدم طباعته إلا بعد وفاته، وفعلاً تم طبع الكتاب بعد وفاته، تحت عنوان «أيام لا تنسى»، وكتب مقدمته البابا تواضروس الثانى. طعام «البابا» البابا كان قليل الأكل جداً، فكان بحكم رهبنته يقول «الرهبنة هى الانحلال من كل الارتباط بالواحد»، فكان دائماً يقول إن الإنسان لازم متتسلطش عليه عادة، أى عادة حتى لو «شرب الشاى»، والمقصود أن يتحكم الإنسان فى نفسه، وكان البابا فى أى حفلات أو إفطار رمضان من خلال تصويرى أنظر له، فأجده ينظر على جميع الحاضرين، ومن يجده لا يتناول الطعام يسأله عن السبب ويحثه على الأكل، فكان يأخذ باله من تلك التفاصيل الإنسانية الصغيرة باستمرار، كما أن البابا نباتى لا يأكل اللحوم، وسمعت من الرهبان أنه كان يطوى أسبوع الآلام، أى يصوم فيه منذ أحد السعف وحتى خميس العهد.