كثيرة هي نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان ؛ فالحمد لله على نعمة الإسلام، ورغم أنها تكفي؛ لنشكر الخالق عليها في كل وقت ومكان؛ إلا أن الله – سبحانه وتعالى - أضاف عليها للإنسان نعماً أخرى لا تعد ولا تحصى. أنعم الله على بعض الناس بنعمة الصحة، ومنح آخرين نعمة المال، ووهب من يشاء بنين، أو بنات، أو بنين وبنات، وأعطى أناساً علماً. وتبقى نعمة العقل التي زين الله بها جميع بني البشر ، وميز بها الإنسان ؛ فهي النعمة الفارقة بيننا ، وبين مخلوقاته الأخرى . كرمنا الله بالعقل ، وما أكرمها من نعمة!! وفي كل الأحوال وجب على الإنسان أن يشكر الله على ما وهبه من نعم؛ فيكون في هذا الشكر خيراً له، وقد يمنع الله – ابتلاء منه – إحدى هذه النعم أو أكثر عن إنسان؛ فيصبر؛ فيكون في هذا الصبر خيراً له أيضاً. إننا مطالبون – دائماً – بأن نحمد الله ونشكره على نعمه، والشكر الحقيقي لهذه النعم هو حسن استخدامها فيما يرضي الله، ويعود بالخير على الناس. فهل نحن – فعلاً – نشكر الله على نعمة العقل؟ وهل نستخدم عقولنا- حقاً- فيما يرضي الله، ويعود بالخير على الناس؟ المعروف أن صاحب العقل يشقى بعقله، وشقاؤه هذا نتيجة حرصه دائماً على الفهم الصحيح لكل ما يسمعه، أو يراه، أو يعرض عليه ،أو يدور حوله ،أو يعايشه من أقوال و أفعال و أحداث. أما أهل الجهالة - ممن لا يشكرون الله على نعمة العقل؛ فلا يستخدمون عقولهم في الفهم والعمل من أجل رضا الله ، والخير للنفس والأهل وكل الناس – فهم يرون من فرط جهلهم أنهم في راحة ونعيم ، وهو بلا شك زور وبهتان ؛ لأن عدم استخدامهم لعقولهم هو جحود بنعمة وهبهم إياها الخالق – عز وجل – وهو ما يعني إعراضاً عن ذكره ؛ يترتب عليه معيشة ضنكا، وآخرة مهلكة. ويجدر الإشارة – في هذا السياق – أن الشكر على نعمة العقل يتحقق بصورة حقيقية وفعالة إذا ما تم تدريب الصغار على استخدام العقل، وتوجيه الكبار إلى كيفية هذا الاستخدام. إن تدريب الصغار على استخدام العقل ينبغي أن يكون الشغل الشاغل للأسرة (فيما قبل المدرسة)، وللمدرسة كشريكة بعد ذلك في تشكيل التفكير. وتوجيه الكبار لإعمال العقل فيما يسمعوه أو يقولوه أو يقرءوه أو يكتبوه أو يفعلوه أو يعايشوه من أحداث، ينبغي أن يكون الدور الحقيقي للمدرسة ولغيرها من المؤسسات التربوية الأخرى كدور العبادة ووسائل الإعلام والأندية والمراكز والجمعيات. والحق إن كثيراً من الآباء والأمهات لا يدركون أن دور الأسرة لا يقتصر على توفير المأكل والمشرب والملبس وغيرها من الاحتياجات الأساسية، ولا يقتصر على توفير الأمن والحنان والعطف على أطفالهم. بل يمتد هذا الدور إلى العمل الحثيث على التشكيل الصحيح للتفكير ، والتدريب المستمر على استخدام العقل، وهو أمر يبدأ منذ الميلاد، ويمتد حتى الممات. والحق – أيضاً – إن المدرسة – في أحايين كثيرة – لا تهتم بتنمية المهارات العليا للتفكير ، ولا بالتدريب على توظيف العقل في الفهم ، وحل المشكلات ، وإنتاج الجديد ، وصولاً إلى الإبداع. إن المدرسة تعنى – في معظم الأحوال – بالتحصيل الدراسي القائم على التلقين والحفظ ثم الاسترجاع ، مع اهتمام شكلي ومظهري بالأنشطة التعليمية الهادفة إلى تنمية التفكير بمستوياته العليا التي تعين على الاستخدام الصحيح للعقل بما يحقق الشكر الحقيقي على هذه النعمة. إن التربية الأسرية والتعليم المدرسي هما الأساس لتربية التفكير الصحيح، وتنمية القدرة على الاستخدام الصحيح للعقل. إن المتأمل للكثير من الأحداث التي تمر بها بلادنا بعد ثورة شعبنا العظيم في 25 يناير 2011م، وخاصة الأحداث المرتبطة بالخلافات الحادة بين المثقفين، والنزاعات المتكررة بين الأفراد والجماعات، والصدام الشديد بين القيادات والمرءوسين في كل إدارة ومؤسسة، وغير ذلك من الأحداث المؤسفة ؛ يدرك المتأمل لذلك أن هناك غياباً شديداً للعقول الرشيدة في كل موقف ، وفي كل مكان. إن المتابع للحوارات المسموعة والمرئية والمقروءة بين أطراف مختلفة، والممارسات- غير المرضية - التي يقوم بها أفراد على مستوى الأسرة الواحدة، والجيران، والأقارب، والزملاء في العمل، والناس في الشارع،وعدم الرضا الذي تفجر – مع الثورة – من المرءوسين تجاه رؤسائهم ، ومن القيادات تجاه تابعيهم في معظم مؤسسات الدولة : الحكومية والخاصة.وغير ذلك من الممارسات ؛ يتأكد أن منا ما لا يستخدم عقله فيما يرضي الله، ويحقق الخير للمجتمع. إن المتابع للمستجد من الأقوال ، والمتأمل للمستحدث من الأحداث ؛ يقتنع أننا لا نشكر الله على نعمة العقل ؛ حيث نستخدم عقولنا فيما يضر بنا وبأهلنا وبمجتمعاتنا، وكأن منا (ولو قليل) من يعمل عقله؛ ليفسد علينا فرحتنا بثورتنا، وليضيع على الجميع مكاسب هذه الثورة. أظن أن هناك خاسرين من مكسبنا للحرية والكرامة والعدالة، وأن هناك مضارين في مصالحهم الخاصة إذا ما تحقق الصالح العام للناس والمجتمع. وهؤلاء يجب مواجهتهم بحسم وحسن تفكير وتدبر وبأعمال قائمة على عقول واعية. الآن ؛ نحن أكثر حاجة إلى تحكيم عقولنا فيما نسمعه؛ فلا نردده دون وعي، ولا ننشره شائعة، تُحدث بلبلة وفزعاً في النفوس، ولا نحكم عليه بتحيز وعنصرية. الآن؛ يجب علينا – أكثر من أي وقت مضى - أن نستخدم عقولنا؛ للتعامل الواعي مع ظروفنا، والتفكير بعمق مع المعلومات والأخبار، وتحليلها وموازنتها وحسن تقويمها. الآن؛ أرى فرضاً على كل فرد منا أن يبرهن على حمده وشكره لله على ما وهبه به من نعمة العقل، وموهبة الفكر من خلال التعامل بحكمة مع كل اختلاف في الرأي أو خلاف في التصرف. إنها مسئولية الجميع. كلنا مسئولون. كل منا أعطاه الله عقلاً، وكل منا سيحاسبه الله على هذا العقل : فيما استخدمه، وكيف وظفه في اتباع أوامره، والبعد عن نواهيه، وفي تجنيب نفسه وأهله وعشيرته وجيرانه وزملائه وأصحابه كل ما يضايق أو يضر ، وفي توفير الخير والنفع للناس وللمجتمع. يجب أن يتعلم أبناؤنا كيف يتفكرون ويفكرون، ويجب أن يحرص شبابنا وكبارنا على استخدام عقولهم الاستخدام الصحيح في كل مواقف الحياة. إن ذلك هو الشكر الحقيقي والحمد الصحيح على ما وهبنا الله من نعمة العقل. فهل نحن قادرون؟ هل نحن فاعلون؟ اللهم يسر لعقلائنا تمثيلنا ، وامتلاك إدارة أمورنا... اللهم آمين.