بعد الثورة خرج الإسلام السياسي من القمقم، وأسباب كثيرة بعضها تاريخية وبعضها موضوعية وبعضها ذاتية، استطاع الإسلام السياسي وعلى رأسه الإخوان المسلمون حيازة الأغلبية في البرلمان بغرفتيه (الشعب والشورى)، بعد أن سبق ووصل لمعظم النقابات والاتحادات الطلابية، ولم يكتف بذلك بل حاول بشدة تشكيل الحكومة، ثم محاولة السيطرة على تأسيسية الدستور، أو عرقلتها.. وأخيرا دخول د.محمد مرسي سباق الرئاسة، وبالتالي سعيه إلى السيطرة على مفاصل الدولة، هنا يبرز سؤال ملح حول وضعية الفكر والإبداع في دولة يقوم على رأسها فصيل له مواقف تعادي الفن وحرية الإبداع، وتدعو إلى التكفير والمصادرة رغبةً في السيطرة على الشعب وقمعه، بتهديد وتقيد مفكريه ومبدعيه، وبالتالي يمكنهم الانفراد به. في هذا التحقيق قامت (الوادي) باستطلاع آراء أقطاب الثقافة في مصر حول كيفية الحفاظ على حرية الإبداع في ظل هذا المناخ السياسي.. في البداية يقول د.عبد المنعم تليمة أستاذ النقد الأدبي بجامعة القاهرة أن الإبداع في مصر لم يتوقف يوما، ولن تخمد جذوته، نعم كان يصادر ويحاصر ويلاحق المبدعين بالمعتقلات والقضايا وربما النفي الاختياري، لكن لا تملك قوة أن توقف الإبداع قولاً واحدا، والدليل إنه في ذروة المد الفاشي والديكتاتورية ثقيلة الوطأة التقينا إبداعات ممتازة، من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وفيها إحالة وتنويه وإسقاط سياسي يعارض الاستبداد ولكن بالرمز.. نجد ذلك مثلا في (مسرحية السلطان الحائر) لتوفيق الحكيم والتي كتبها عام 1959م وكان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في غمرة زهوه وانتشائه، بعد الوحدة مع سوريا فأصدر الحكيم مسرحيته تلك بالفرنسية، حتى يهرب من مقصلة الرقابة، وكان أن طلب منه عبد الناصر شخصياً أن يترجمها بقلمه إلى العربية، وقريباً من نفس المعنى، ألف محفوظ (اللص والكلاب) وفيها إسقاط، لا يخفى على الناقد الأريب، حيث ينتقد محفوظ تصرف سعيد مهران (الفردي) ، الذي يؤدي في النهاية إلى أن تصيب رصاصاته الطائشة أبرياء، لم يقصد قتلهم وليسوا هم من سجنوه أو سلبوه ابنته، وكان محفوظ يخرج بمعدل سنوي رواياته الكبرى التي غيرت مسار الإبداع الروائي في العالم العربي، نفس الأمر عند نعمان عاشور وسعد الدين وهبة.. لهذا أعتقد أن الإخوان والسلفيين قوى مصرية لها تاريخ لكنها على يمين المجتمع، وهي محافظة ورجعية وليس لها مستقبل ولا خوف منها على مستقبل حرية الإبداع. ويتشكك الناقد الدكتور أحمد الخميسي بداية من استمرارية الإخوان في الإمساك بمواقع السلطة، ويقول: بافتراض أنهم سوف يستمرون وهذا قطعاً لن يحدث، حسب تقديري الشخصي، فستثير عاصفتهم عاصفة ثقافية مضادة؛ وسوف يكون الوضع أبعد من قضية الإبداع لأنهم قادمون إلينا بمنظومة مختلفة ومتكاملة من القيم لا تشمل الإبداع فحسب، بل إن محاربة الإبداع وإجهاضه، كجزء من نسق فكري كامل، يشمل العلم والإبداع والمعاملات الاجتماعية، واعتقد أن كل المعنيين بهذه المنظومة بين مبدعين وعلماء وحتى عموم الناس سوف يرفضونها، والمؤكد أن الإخوان شرعوا في الكشف عن أنيابهم، لكنهم لن ينتصروا لأن العالم لا يرجع إلى الوراء، بل يتقدم إلى الأمام، وقد انتهت ولن تعود، فترة كان رجال الدين فيها يسيطرون على كل تفاصيل الحياة، ولسنا في حاجة إلى التنويه بأن خلط الين بما سواه يؤدي إلى كوارث محققة، حيث يتم تفسير النص الإلهي بعقول بشرية تحتمل الخطأ والقصور.. وفي نبرة قلقة يتحدث الشاعر فريد أبو سعده قائلا: أتحسس من الآن خطراً محدقا بالثقافة والإبداع، وأرى أن المبدعين عليهم أن يحتشدوا وأن يجابهوا أنفسهم، لمحاربة فكر متطرف يرفض الإبداع بعامة، ويحاكمه بمفاهيم جامدة تقف عند ظواهر النصوص، ولا تنتمي إلى روح الشريعة، فلقد عانينا كثيراً في عهد مبارك من قوانين الحسبة، وكان هذا في دولة شبه مدنية، فما بالك إذا أصبحنا في دولة دينية كاملة، ولست أشك أن الحل الوحيد يكمن في الحذر واليقظة والتوحد وإلاّ... ويعتقد د.صلاح الراوي عضو هيئة مكتب اتحاد مصر والأستاذ بأكاديمية الفنون أنه لا حرية للإبداع في ظل استحواذ الرؤى الظلامية من بوابة التشريع البرلماني، وقال: لقد قلت لهم ذلك نصاً في مجلس الشعب عند حضوري ممثلاً لاتحاد الكتاب في جلسة الاستماع بلجنة الثقافة، محددين نحن الكتاب والفنانين في جبهة الإبداع أن حرية الإبداع لا سقف لها وأن نصوص الدستور لا بد أن تكون قاطعة في هذا الشأن وقلت: لن تحكمنا أفكار ظلامية وإلا فالميادين بيننا وبينهم..والملاحظ أنه حتى قبل الثورة كان الإخوان والمتأسلمون يحاصرون الإبداع ولدينا مثالاً لا حصراً أزمة الرويات الثلاث التي أطاحت بقيادات كبرى في وزارة الثقافة، ومن نافلة القول أن وضع كهذا يتطلب توحدا ومواجهة قوية منظمة من قبل المبدعين، لكن تاريخ مصر واضح وعريق في مواجهة هذا الطفح الجلدي أتحدث كشاعر وأستاذ أكاديمي يعي تماماً كيف تجاوز الحس الشعبي كل التابوهات وخاض في حرية تامة بأمور الدين والجنس والسياسة بلا خوف ولا وجل، وأتساءل: أليس مما يلفت النظر أن جماعة الإخوان إلى يومنا هذا لم تنتج أديباً مرموقاً ولا أدباً ناجحاً؟ ويرى الشاعر فارس خضر رئيس تحرير مجلة الشعر: أن أية جماعة دينية متطرفة هي فاشية بطبعها، لأن فكرها لا يرى الآخر، ولا يتسامح معه باعتبار أنه يمتلك اليقين المطلق، وأصحابه في حزب الله، وبالمقابل يتخندق البشر كافة باختلاف طوائفهم وتياراتهم في حزب الشيطان، هذه العقلية الأحادية الموغلة في رجعيتها، لا يمكن لأصحابها أن يدعوا تأييدهم لحرية الفن والإبداع؛ كيف يكون ذلك وشعارهم: "اعتقد ولا تنتقد" ومطلبهم الأول هو التسليم المطلق.. أعتقد أن حرية الإبداع سوف تحدد، وتقيد وتقطع أيديها وأرجلها من خلاف، لكنها ستنتصر في النهاية وستقهر كل أصحاب الرؤى المتكلسة لعدة أسباب منها: أن هؤلاء لا يصمدون في اختبارات الشارع العملية، وما نسمعه في عربات المترو وعلى المقاهي يؤكد نقمة البسطاء وغضبهم على الإخوان، الذين سعوا للحصول على أصواتهم، ثم لم يقدموا لهم شيئاً..فهم سوف يقيدون حرية الإبداع وسيضعوا على رأس المؤسسات الثقافية والمعنية بالفن والإعلام عقولاً منغلقةً، ماضية، وننتظر أيضاً محاكمات مكثفة ومنتظمة، لكنهم كما قلت إذا قطعوا أطراف الحرية فسوف تخرج لها أطرافاً جديدة. في المقابل ينبه الناقد د.حسام عقل إلى ضرورة الحوار مع التيارات الدينية ويقول:لست أنكر أنه في المرحلة الانتقالية الني نعايشها ظهرت بعض البؤر المتزمتة، التي تنظر إلى الآداب والفنون بشيء من الريبة والشكوك، بل وصل بعضهم إلى رفع دعاوى الحظر والتحريم؛ والحل هو أن نستعيد من الذاكرة فترات المد الحضاري العربي الإسلامي، وأن ندير حواراً مع هؤلاء المحرمين مستندين فيه إلى أدلة مقنعة، تؤكد أن الإسلام لا يعادي فناً ولا يناهض أدباً، بل يدعو إلى تهذيب الوجدان بالفنون الراقية، وإن كان بعض السلفيين على وجه التحديد يذهبون إلى الحظر المطلق، فإن الإخوان على سبيل المثال يتعاملون مع الآداب بأريحية بالغة.. فقد فوجئت يوما بأحد كبار مشايخ السلفيين يدعو إلى تحريم النحت وتحطيم التماثيل، أو طمسها واندفع بعض شباب الإسكندرية يغطون تماثيل مدينتهم بالاسدالات بناءً على هذه الفتوى..فأدرت حوارا مع هذا الشيخ لمدة ثلث الساعة أبرهن له فيه أن عمرو بن العاص وجيل الفاتحين العظام لم يمسوا تمثالاً ولا حطموا أيقونة قبطية، ولا أثراً فرعونياً، وهذا يؤكد على مبلغ ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية من التسامح، ثم فوجئت بهذا الشيخ بعدها يوزع فتوى له طبعها على حسابه وفيها يؤكد أن التماثيل الفرعونية تراث حضاري ينبغي الحفاظ عليه، واعتقد إن مراجعة فكرية بهذا الشكل من بعض رموز التيار السلفي تؤكد جدوى الحوار وأهميته في تقديري..