«رياضة النواب» تطالب بحل إشكالية عدم إشهار 22 نادي شعبي في الإسكندرية.. والوزارة: «خاطبنا اللجنة الأولمبية»    وزير الرى: اتخاذ إجراءات أحادية عند إدارة المياه المشتركة يؤدي للتوترات الإقليمية    «المشاط»: منصة «حَافِز» تعمل عى تعزيز القدرة التنافسية للشركات    جنوب أفريقيا ترحب بمطالبة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال بحرب غزة    بولونيا ضد يوفنتوس.. مونتيرو يعلن أول تشكيل مع اليوفى بالدورى الإيطالى    حارس آرسنال يحدد موقفه من البقاء    التحقيق مع الفنان عباس أبو الحسن بعد دهسه سيدتين بالشيخ زايد    فيلم "السرب" يواصل تصدر شباك التذاكر    جنوب أفريقيا ترحب بإعلان "الجنائية" طلب إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت    سيد جبيل: قرار الجنائية الدولية ضد نتنياهو وجالانت صدمة كبيرة لإسرائيل    وزارة الصحة تطلق 8 قوافل طبية مجانية بالمحافظات    الكشف على 929 مواطنا بحلايب وشلاتين ضمن قافلة جامعة المنصورة الطبية.. صور    لطلاب الامتحانات.. احذوا تناول مشروبات الطاقة لهذه الأسباب (فيديو)    رئيس مجلس الشيوخ: «مستقبل وطن» يسير على خطى القيادة السياسية في دعم وتمكين الشباب    مصرع شاب وإصابة 2 في حادث تصادم أعلى محور دار السلام بسوهاج    نائب رئيس جامعة بنها يتفقد امتحانات مركز الإختبارات الالكترونية    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    انقسام كبير داخل برشلونة بسبب تشافي    «تقدر في 10 أيام».. «حياة كريمة» تقدم نصائح لطلاب الثانوية العامة    السرب المصري الظافر    أول تعليق من التنظيم والإدارة بشأن عدم توفير الدرجات الوظيفية والاعتماد ل3 آلاف إمام    تحرير 174 محضرًا للمحال المخالفة لقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    حجز شقق الإسكان المتميز.. ننشر أسماء الفائزين في قرعة وحدات العبور الجديدة    الشرطة الصينية: مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين إثر حادث طعن بمدرسة جنوبى البلاد    أزمة بين إسبانيا والأرجنتين بعد تصريحات لميلي ضد سانشيز    محافظ دمياط تستقبل نائب مدير برنامج الأغذية العالمى بمصر لبحث التعاون    الأوبرا تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    "اليوم السابع" تحصد 7 جوائز فى مسابقة الصحافة المصرية بنقابة الصحفيين    تراجع المؤشر الرئيسي للبورصة بختام تعاملات جلسة الإثنين    قائمة الأرجنتين المبدئية - عائد و5 وجوه جديدة في كوبا أمريكا    «سوميتومو» تستهدف صادرات سنوية بقيمة 500 مليون يورو من مصر    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. الإفتاء توضح    بدأ العد التنازلي.. موعد غرة شهر ذي الحجة وعيد الأضحى 2024    الصحة تضع ضوابط جديدة لصرف المستحقات المالية للأطباء    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    تراجع ناتج قطاع التشييد في إيطاليا خلال مارس الماضي    المالديف تدعو دول العالم للانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل    انطلاق فعاليات ندوة "طالب جامعي – ذو قوام مثالي" بجامعة طنطا    د. معتز القيعي يقدم نصائح حول الأنظمة الغذائية المنتشره بين الشباب    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    ليفربول ومانشستر يونايتد أبرزهم.. صراع إنجليزي للتعاقد مع مرموش    لاعبو المشروع القومي لرفع الأثقال يشاركون في بطولة العالم تحت 17 سنة    إيتمار بن غفير يهدد نتنياهو: إما أن تختار طريقي أو طريق جانتس وجالانت    الإعدام شنقًا لشاب أنهى حياة زوجته وشقيقها وابن عمها بأسيوط    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    ضبط المتهمين بسرقة خزينة من مخزن في أبو النمرس    برنامج "لوريال - اليونسكو" يفتح باب التقدم للمرأة المصرية في مجال العلوم لعام 2024    براتب خيالي.. جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    توجيه هام من الخارجية بعد الاعتداء على الطلاب المصريين في قيرغيزستان    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    أسرته أحيت الذكرى الثالثة.. ماذا قال سمير غانم عن الموت وسبب خلافه مع جورج؟(صور)    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    خلاف في المؤتمر الصحفي بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية بسبب أحمد مجدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الصباح" تنفرد بنشر فصل من الكتاب الذى قاد يوسف زيدان إلى نيابة أمن الدولة
نشر في الصباح يوم 23 - 02 - 2013

بعد الضجة التى أثارتها رواية «عزازيل» فجر كتاب «اللاهوت العربى» للدكتور يوسف زيدان أزمة جديدة وسط مطالبات بحجب الكتاب ومصادرته لإساءته فى حق المسيحيين حيث مثل زيدان أمام النيابة للتحقيق معه بتهمة ازدراء الأديان «الصباح» تنشر مقدمة الكتاب الذى فجر الأزمة
يوسف زيدان فى «اللاهوت العربى»: اليهودية والمسيحية والإسلام.. 3 تجليات لديانة واحدة
لماذا لم يثر البوذيون حين دمر المخبولون من «طالبان» تمثاليهم لبوذا فى الباميان
الرسائل السماوية تتشابه في تأسيس اللاحق على السابق علماء الإسلام أول من عرف الفقه المقارن لدراسة الفروق بين المذاهب المختلفة

وبداية، فإننى من خلال هذا المصطلح الجديد (اللاهوت العربى) الذى أطرحه هنا للمرة الأولى، أؤكد أن ثمة نقاطًا مفصلية، مهمة ومهملة، تجمع بين تراث الديانتين الكبيرتين: المسيحة والإسلام، بل تجمع هذه النقاط المفصلية الواصلة، بين تراث الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، التى هى فيما أرى، ديانة واحدة ذات تجليات ثلاثة.
ومن المفيد أن أشير أولاً: قبل الدخول إلى الفصول والتفاصيل التى قد تطول، إلى بعض النقاط الاستهلالية التى تلقى الضوء على تلك المنطقة الكثيفة، المعتمة الوعرة، التى نحن بصدد الدخول إليها، ولسوف نورد هذه النقاط الافتتاحية، المفتاحية، من خلال مجموعة الأقوال التالية:

القول الأول
جرت عادة الناس فى بلادنا، فى أيامنا الحالية، أن يصفوا اليهودية والمسيحية والإسلام، تحديدًا، بأنها ديانات سماوية، ولم يكن غالبية الأوائل ولا الأواخر من العلماء، يستعملون تلك التسمية أو هذا الوصف للديانات الثلاث، غير أن صفة (السماوية) طفرت فى ثقافتنا المعاصرة فجأة، كوصف عام واسم معتاد للديانات الثلاث، ثم شاع مؤخرًا استخدامها فى كتاباتنا وكلماتنا اليومية، من دون انتباه إلى أن أى دين، أيا كان، هو بالضرورة سماوى لغة واصطلاحًا، فالسماء فى اللغة، أى من حيث المفهوم الأصلى للكلمة، تعنى العلو، ومن هنا، وحسبما يقول العلامة اللغوى الشهير ابن منظور وغيره كثيرون من علماء العربية: فإن كل ما أظلك وعلاك هو سماء.. فالسماء، فى حقيقة الأمر، لفظ لا يقع معناه كل شىء محسوس محدد، وإنما على أى سقف كان، ولو كان سقف الغرفة، وقد قيل للسحاب سماء، لأنه يعلو ويظل لا أكثر من ذلك ولا أقل.
ومن هنا لم يعتد الأوائل من علمائنا بصفة السماوية، ولم يعتادوا استخدام وصف (السماوى) للإشارة إلى واحدة من هذه الديانات الثلاث المشهورة، وإنما قالوا، مثلما قال القرآن الكريم، بالكتابية، نسبة إلى أهل الكتاب (التوراة، الإنجيل) وبالكفار الذين لا يؤمنون بالله، وأيضًا، لم يستخدم وصف وثنى بالمعنى الاصطلاحى، فى فجر الإسلام، وإنما أشير فى القرآن إلى أن الكفار يعكفون على أصنام وأوثان، يعبدونها من دون الله، فهم بهذا المعنى (يكفرون) العبادة الحقة وينكرون آيات الألوهية الساطعة فى الكون، أيا ما كان الذى يكفرون به، أى يخفون ويغطون، إذ لفظ الكفر يعنى أصلاً: الإخفاء والتغطية، ولذا وصف الزراع الذين يدفنون البذور فى الأرض، بالكفار، ولذلك، فقد يكون الكفر صنمًا مقدسًا عند عرب قلب الجزيرة قبل الإسلام، أو نارًا معبودة عند المجوس، أو كواكب منيرة فى السماء عند الصابئة، وهؤلاء (الكفار) جميعًا، يتعالون بما يعبدونه من محسوسات، فيتسامون بها إلى مرتبة الألوهية حين يصيرون ما يعبدونه متعاليًا عن وجوده الفيزيقى، ومتجاوزًا لحده الفعلى، فيكون بلفظ فلسفى (ترنسندنتالى).. أى أنهم يتعالون بمعبوداتهم إلى سقف سماوى يفارق واقعها المحسوس، بحسب ما يتوهمونه فى معبوداتهم، ومن هنا نقول إن كل دين، مهما كان، هو سماوى بالضرورة فى نظر معتنقيه.
ولعل الأصح، إذا أردنا تمييز الديانات الثلاث عن غيرها، أن نصفها بأنها ديانات رسالية أو (رسولية) لأنها أتت إلى الناس برسالة من السماء، عبر رسل من الله وأنبياء يدعون إليه تعالى ويخبرون عنه الناس، سواء جاء هذا المخبر عن الله بكتاب، فكان رسولاً، أو عولت دعوته على كتاب سابق، فكان نبيًا، ومن هنا، كانت اليهودية هى رسالة موسى وأنبياء العهد القديم، الكبار الأوائل منهم أو الصغار المتأخرون، وابتدأت المسيحية بنبوءة يوحنا المعمدان، يحيى بن زكريا، ذلك الصوت الصارخ فى البرية مؤذنًا بمجىء بشارة المسيح، الذى أكمل دعوته (كرازته) تلاميذه الذين يسميهم القرآن والمسلمون: الحواريين، ويسميهم الإنجيل والمسيحيون: الرسل، وعلى المنوال ذاته، كان الإسلام هو رسالة النبى محمد التى تلقاها من الله عبر الملاك جبريل، الذى هو عند المسلمين الروح الأمين وروح القدس، والذى هو فى المسيحية (الروح القدس) ولكن بدون ألف الروح ولأمه.
إن وصف الديانات الثلاث (الرسالية) بالسماوية، إذن، هو وصف غير دقيق، غير أن الناس اعتادوا استعماله ودرجوا عليه، فصار من كثرة استخدامه، كأنه يقينى.. وكذلك الحال فى صفة الوثنية، التى ألحقتها المسيحية أولاً بالديانات الأخرى، على اعتبار أنها ديانات تحتفى بالأصنام أو الأوثان، وهنا تجد الإشارة إلى الفارق الدقيق بينهما، فالوثن هو ما كان على صورة وهيئة محدودة، مثل سيرابيس والعجل أبيس عند المصريين قبيل انتشار المسيحية، أو أثينا وفينوس وبوسيدون وبقية آلهة اليونان القديمة، أو هبل وإساف ونائلة عند عرب قريش قبل الإسلام، وغير ذلك من الأوثان التى طالما قدسها الإنسان. أما الصنم فهو المعبود الذى لا يتخذ هيئة محدودة، مثلما هو الحال فى أصنام اللات، التى كانت غالبًا أحجارًا بيضاء مكعبة الشكل.
وعلى الرغم مما سبق، فإنه لا يشترط أن تكون كل الديانات التى تحتفى بالتماثيل، هى بالضرورة (وثنية) فالديانة البوذية مثلاً، تحتفى بأصنام بوذا، لكنها لا تقدسها قداسة التعبد لها، ولا تعدها صورة حجرية للآلهة، وبالتالى يصعب وصف البوذية بأنها وثنية، بالمعنى الدقيق للكلمة، ومن هنا نفهم، لماذا لم تثر ثائرة البوذيين فى العالم، حين دمر المخبولون من حركة طالبان فى أفغانستان تمثالى بوذا الهائلين فى منطقة الباميان، وقد صرخ العالم كله متوسلاً، واستصرخ علماء المسلمين فى بقاع الأرض، ليتوسطوا باسم الإنسانية لدى زعماء حركة طالبان (طلبة علم الشريعة) كى ينثنوا عن عزمهم تدمير التمثالين اللذين طالما أثارا إعجاب الرحالة من أهل الإسلام السابقين، والزائرين من غير المسلمين أيضًا، غير أن مدافع الأفغان من طالبان انطلقت نحو تمثالى بوذا، على مرأى من العالم كله، فى الأرض الحسرة والحنق، ومع ذلك، احتفظ البوذيون الذين هم أكبر عددًا من المسلمين جميعًا، بهدوئهم النفسى الذى أمرتهم به ديانتهم، وحزنوا حزنًا عميقًا على تراث إنسانى باهر، من دون أن يثوروا تلك الثورات التى طالما عرفناها عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، إذا لمست مقدساتهم أو أشير إلى عقائدهم ولو من بعيد، بأى تلميح لا يحبونه، فيكون ذلك إيذانًا بانفجار العنف.
وقد أشرت هنا إلى هذه الواقعة، لبيان ارتباط الدين بالعنف عبر الجدلية الثلاثية للحركة الدورية التى يتفاعل فيها الدين والسياسة والعنف، وهو ما سنتوقف عنده طويلاً فى خاتمة هذا الكتاب، كما سنتوقف قبل تلك الخاتمة عند آليات التدين الجامعة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين.

القول الثانى
يبدو لنا عند إمعان النظر، أن الديانات الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام) هى فى حقيقة أمرها ديانة واحدة، جوهرها واحد، ولكنها ظهرت بتجليات عدة، عبر الزمان الممتد بعد النبى إبراهيم (أبرام) الملقب فى الإسلام بأبى الأنبياء، وهو فى المسيحية: جد يسوع المسيح لأمه، فكانت نتيجة هذه المسيرة الطويلة، هى تلك التجليات الثلاثة الكبرى (الديانات) التى تحفل كل ديانة منها بصيغ اعتقادية متعددة، نسميها المذاهب، والفرق، والنحل، والطوائف.
ومهما كان من موقف المسيحية الحانق على اليهود، لأنهم أدانوا السيد المسيح، وقدموه إلى بيلاطس البنطى ليقتله، بحسب رواية الأناجيل، ومهما كان من موقف الإسلام الذى أدان اليهود، لأنهم بحسب ما ذكره القرآن حرفوا الكلام الإلهى، وقتلوا النبيين بغير حق، وزعموا أن يد الله مغلولة.. وغير ذلك من عظائم الأمور! إلا أن الديانتين، المسيحية والإسلام، اجتمعتا على الاعتراف بالديانة اليهودية، ونظرتا بكل تبجيل إلى أنبياء اليهود (الكبار) بل بدأتا بالإقرار بنبوتهم، وبتأكيد ارتباطهما بهؤلاء الأنبياء، وهو ما أنكره اليهود على كلتا الديانتين اللاحقتين، ومع ذلك، فقد بدأت المسيحية باعتبارها امتدادًا لليهودية، فاستهل إنجيل متى آياته ببيان أن المسيح يسوع (عيسى) هو ابن داود الذى هو ابن إبراهيم: فجميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى سنى بابل أربعة عشر جيلاً، ومن سنى بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً.. واستهل القرآن خطابه الإلهى بالآيات الأولى من سورة البقرة، وهى الآيات المؤكدة أن المتقين هم: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبل) (البقرة: آية 4) مع أن اليهود والمسيحيين، وهم عند المسلمين أهل الكتاب، لم يزعموا أن كتبهم نزلت من السماء، وإنما يعتقدون أنها كتبت بوحى، وشتان ما بين التنزيل والوحى، وقد اختصت سور قرآنية كثيرة بسيرة الأنبياء الأوائل، اليهود والمسيحيين، وقدمهم القرآن الكريم على اعتبار أنهم (ذرية بعضها من بعض) (آل عمران: آية 34) مؤكدًا بذلك الطابع العائلى للنبوة والأنبياء، وهو الأمر الذى سنعرض له فى الفصل الخامس من كتابنا هذا.
وبطبيعة الحال، فقد بدت بسبب اختلاف اللغات والأماكن والأزمنة، اختلافات تشريعية وعقائدية بين الديانات الثلاث، لكن الجوهر الاعتقادى ظل واحدًا، وظل النسج الأصلى يتم على المنوال ذاته، ففى الديانات الثلا المعبود واحد، مهما تعددت صفاته وأقانيمه وأسماؤه، وهو يختص قومًا بخطابه الإلهى لأنه تعالى (أعلم حيث يجعل رسالته) (الأنعام: 124) وهو يصطفى رسله والمؤمنين به، فيرفعهم فوق بقية الناس، ومن حيث العلاقة الداخلية بين التجليات الثلاثة للديانة، أو الإسلام بمعناه الواسع، ظل المنوال كذلك واحدًا، ففى كل ديانة شريعة هى وحدها واجبة الاتباع، وأهلها هم فقط المؤمنون، وغيرهم غير مؤمنين، وفى كل مرة نرى الدين اللاحق يؤكد الدين السابق، بينما الدين السابق ينكر اللاحق ويتسنكره، أو، بالأحرى، يفعل أهل الديانات ذلك فى أنفسهم، ثم يفعلونه داخل كل ديانة على حدة، حين يجعلون (المذهب) معادلًا للدين، فيصير الذين خارج المذهب خارجين على العقيدة والدين.
ومن ناحية أخرى يطيب للكثيرين وصف الديانات الثلاث بأنها ديانات (توحيدية)لأنها دعت إلى عبادة الله الواحد، فى مقابل الديانات الأخرى القائلة بتعدد الآلهة. غير أن صفة التوحيد، ليست هى المعبر الجوهرى عن وحدة الديانات الثلاث، وإلا فإن هناك ديانات أخرى سابقة ولاحقة، نادت بالتوحيد منذ عبادة آتون التى قال بها إخناتون، إلى نحلة البهائية التى ألحقت ذاتها بما سبقها من ديانات ثلاث، فلم تجد من أصحابها غير الإنكار والاستنكار، فالتوحيد، إذن، ليس هو الموحد بين اليهودية والمسيحية والإسلام، خاصة أن هؤلاء الموحدين المشهورين، من اليهود والمسيحيين والمسلمين، سلكوا فى (التوحيد) مذاهب شتى، حظيت بموافقة البعض منهم، ورفضها الآخرون، حتى داخل إطار كل ديانة على حدة، ولذلك اختلفت المذاهب وتعددت الفرق الدينية فى الديانات الثلاث، حتى صار الاختلاف المذهبى فى الديانة الواحدة، أعمق وأبعد أثرًا من الاختلاف بين ديانتين.
نخرج مما سبق، إلى تقرير أن الجوهر الجامع بين اليهودية والمسيحية والإسلام، هو تأسيس اللاحق منهم لذاته على السابق، وتأكيد نبوة الأنبياء (الأوائل) فى الديانات الثلاث مجتمعة، مع بعض الاختلافات فى صورة هؤلاء الأنبياء بين اليهودية والمسيحية من جهة، والإسلام من جهة أخرى. وبقطع النظر عن الصورة المثلى التى قدم بها الإسلام الأنبياء الأوائل، فإن المهم هنا هو (الإجماع) على نبوتهم، والتأكيد على (جوهرية) النبوة. وهى نقطة دقيقة، سوف نتوقف أمامها لاحقًا، عند الكلام عن طبيعة العقلية العربية التى أبرزت ذلك الفكر الكنسى المسمى أرثوذكسيًا بالهرطقة، أى الخروج عن جادة الإيمان القويم، أو الأمانة المستقيمة.

القول الثالث
فإن كتابنا هذا، ليس بحثًا فى مقارنة الأديان بالمعنى المشهور (فى بلادنا) لهذا التخصص المعروف الذى يقارن بين الأديان، بأن يبحث فى قضية دينية ما، فيرصد الاختلاف فيها أو الاتفاق حولها، بين ديانتين أو أكثر، ويحدد ما هنالك من الفروق الفارقة، أو هو عند بعضهم، العلم الذى يقارن بين الأديان، بأن يعرض لكل دين على حدة، بقضاياه كلها، ثم يعرض لدين آخر على المنوال ذاته، فيرصد وجوه الاختلاف والاتفاق بين ديانتين أو أكثر، بحسب عدد الديانات التى يتعرض لها مقارنة الأديان.
ولأن المؤرخين المسلمين وضعوا كتبًا للتعريف بعقائد أهل الملل والديانات غير الإسلامية، فقد عد بعضهم (علم مقارنة الأديان) علمًا إسلاميًا أصيلاً، اختفى عن المسلمين حينًا من الزمان، ثم عاد إليهم فى العصر الحديث، وهو ما يعبر عنه بوضوح د.أحمد شلبى الذى ذكر تحت اسمه، على غلاف كتابه، أنه: الحاصل على دكتوراه الفلسفة من جامعة كمبردج، وفى الكتاب الأول من كتبه الأربعة المشهورة المنشورة مرارًا تحت عنوان مقارنة الأديان يقول أحمد شلبى ما نصه:
«من مفاخر المسلمين أنهم ابتكروا علم مقارنة الأديان، وسنرى أن مفكرى الغرب يعترفون بذلك، ومن الطبيعى أن هذا العلم لم يظهر قبل الإسلام، لأن الأديان قبل الإسلام، لم يعترف أى منها بالأديان الأخرى.. ومن هنا، لم يوجد علم مقارنة الأديان قبل الإسلام، لأن المقارنة نتيجة التعدد، ولم يكن التعدد معترفًا به عند أحد، فلم يوجد ما يترتب عليه وهو المقارنة.. والمسلمون فى عصور الظلام، قد أهملوا مقارنة الأديان لسبب أو لآخر.. بيد أن المسلمين فى العصر الحديث، أفاقوا من غفوتهم وراحوا يحاولون أن يستعيدوا الزمام، وأن يحيوا من جديد علم مقارنة الأديان، ليكون فى أيديهم سلاحًا فى الحاضر، كما كان سلاحًا فى الماضى.. فعلم مقارنة الأديان، يخرج منها ثروة فكرية رائعة، تبرز جمال الإسلام ورجحانه على سواه.. إن الفكر الإسلامى قمة شامخة، وإن ما سواه حافل بالانحراف والوثنية والتعدد، ومثل هذا ظهر عندما تدارسنا معجزات الأنبياء والكتب المقدسة والتشريع، وغير هذه من القضايا.. وفى كلمة مجملة، نتمنى أن يعود علم مقارنة الأديان إلى المعاهد الإسلامية، وأن يأخذ قدره بين العلوم الإسلامية، ليخدم الإسلام فى الحاضر والمستقبل، كما خدمه فى الماضى».
وقد نقلنا الفقرة السابقة على طولها بحروفها، لأنها تمثل حالة من حالات الزعم العلمى المأزوم، أو هى تعبر عن الأزمة التى تزعم لذاتها صفة العلمية، ففى حقيقة الأمر، لم يقدم علماء المسلمين الأوائل علمًا لمقارنة الأديان، بالمعنى المذكور، بل لم يقدموا تأريخًا للعقائد على النحو الواجب، إلا فى حالتين فقط سوف نشير إليهما بعد قليل، فأما ذاك الذى قدمه ابن حزم فى (الفصل فى الملل والأهواء والنحل) والشهرستانى فى (الملل والنحل) والمسبحى فى (درك البغية) والنوبختى فى (الآراء والديانات) وأمثال هؤلاء، فى مثل هذه الكتب، فهو وصف عام لعقائد الفرق والجماعات الإسلامية وغير الإسلامية، فحسب، وإن كان بعض هذه المؤلفات المذكورة، حقيقة، فى مجال وصف الاعتقادات والتعريف بالمعتقدات، وبعضها الآخر فى الرد على تلك العقائد، خاصة (النصرانية) لكنها لم تكن بحال، فى مقارنة الأديان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.