الجامعة الألمانية: العاصمة الإدارية إنجازًا دوليًا مذهلًا بمجال التخطيط والإنشاءات    رئيس جامعة القاهرة يبحث تعزيز التعاون مع اتحاد الجامعات المتوسطية UNIMED    «الحوار الوطنى» يعقد جلسة عاجلة السبت لتعزيز الأمن القومى    إبراهيم عبد الرزاق عميدًا لكلية التربية للطفولة المبكرة    البابا تواضروس: نصر أكتوبر صفحة بيضاء في تاريخ العسكرية المصرية ونشكر الله على سلام بلادنا    خبير: مكاسب الذهب بلغت 5.5% عالميا خلال شهر واحد    التعليم المستمر بجامعة النيل تحتفل بتخرج دفعة من برامج الأنشطة الصيفية للشباب    أمريكا تفرض عقوبات على كيانات وفرد يعملون لصالح الحوثيين    نهاية الشوط الأول| تعادل سلبي بين بايرن ميونخ وأستون فيلا    سقوط «دجال» أوهم المواطنين بالعلاج الروحاني في الدقهلية    انطلاق فعاليات مهرجان ظفار الدولي للمسرح بصلالة    «برغم القانون» الحلقة ال13.. القبض على إيمان العاصي    بعد إعلان اعتزالها، منى جبر: "لو اتعرض عليا مال الدنيا مش هرجع للفن تاني"    6 نصائح اتبعيها مع طفلك قبل دخول الشتاء لحمايته من الأمراض فى المدارس    تنظيم ورشة عمل مهنية للترويح للسياحة المصرية بالسوق التركي    نائب محافظ القليوبية تشن حملة إزالة إشغالات أعلى الطريق الدائري    تجديد حبس المتهمين فى فبركة سحر مؤمن زكريا    إصابه 4 أشخاص جراء انقلاب سيارة في المنوفية    العراق يستقبل 5 آلاف لبناني خلال 10 أيام    بيان من معهد الفلك بشأن هزة أرضية جنوب شرق القاهرة    تفاصيل إنشاء أول منصة متكاملة لبيع وشراء السيارات إلكترونيًا    وزارة الثقافة تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة الأحد المقبل    أمين الفتوى يحذر الأزواج من الاستدانة لتلبية رغبات الزوجة غير الضرورية    أمين الفتوى: مفهوم الاحتياج نسبي وهذا هو الفرق بين الحرص والبخل    خبر في الجول - إيقاف الإسماعيلي عن القيد حتى نهاية الموسم    الكشف على 1025 حالة ضمن قافلة طبية في الفيوم    في مؤتمر صحفي.. استادات تعلن التوسع في استخدام أحدث التقنيات والذكاء الاصطناعي في قطاع الرياضة    إسعاد يونس تكشف موعد اعتزالها التمثيل |فيديو    للمرة الأولى ب«الصحفيين».. العرض العام الأول للفيلم الوثائقي الدرامي «ممر الألم»    ظهرت جنوب تشيلي وفي البرازيل.. مشاهد ترصد الكسوف الحلقي للشمس    بيسكوف: قوات كييف تستهدف المراسلين الحربيين الروس    الإفتاء: الجمعة أول شهر ربيع الآخر لعام 1446ه‍    «البحوث الإسلامية»: 35 قافلة نفذت 25 ألف لقاء دعويا    واشنطن تدعم دور المغرب في تعزيز السلام والأمن في الشرق الأوسط    10 صور ترصد بطولات شيكابالا مع الزمالك    كوريا الجنوبية واليابان تتفقان على تنسيق الاستجابة تجاه «استفزازات» كوريا الشمالية    مصطفى الفقي: علاقة مصر مع إيران وإسرائيل وحزب الله تحتاج مراجعة    «وما النصر إلا من عند الله».. موضوع خطبة الجمعة المقبل    بيلد: أديمي الخيار الأول لخلافة محمد صلاح في ليفربول    معارض الحضارة المصرية في الخارج تجذب 625 ألف زائر    ارتفاع حصيلة القتلى في استهداف إسرائيلي لمبنى سكني بدمشق إلى 3 أشخاص    قافلة تنموية شاملة لجامعة الفيوم توقع الكشف على 1025 مريضا بقرية ترسا    تغيير كبير.. أرباح جوجل بالعملة المصرية فقط    رئيس الوزراء: نعمل على تشجيع القطاع الخاص وزيادة مساهمته    البورصة المصرية تتحول إلى تحقيق خسائر بعد اتجاهها الصاعد في الجلسات الأخيرة    عالم أزهري: 4 أمور تحصنك من «الشيطان والسحر»    تفاصيل زيارة أحمد فتوح لأسرة المجنى عليه.. وعدوه بالعفو عنه دون مقابل    قرار قضائي جديد ضد المتهمين في واقعة «سحر مؤمن زكريا»    200 مليون جنيه لحل أزمة زيزو.. وجوميز يرفض مصطفى أشرف    قافلة طبية في قرية الشيخ حسن بالمنيا ضمن مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان    جمال شعبان: نصف مليون طفل مدخن في مصر أعمارهم أقل من 15 عامًا    منح الرخصة الذهبية للشركة المصرية للأملاح والمعادن بالفيوم «أميسال»    أستاذ جامعي: شمولية «حياة كريمة» سببا في توفير مناخ جاذب للاستثمار    «بونبوناية السينما المصرية».. ناقد: مديحة سالم تركت الجامعة من أجل الفن    النيابة تطلب تحريات مصرع عامل تكييف سقط من الطابق الثالث في الإسكندرية    وزير الري يلتقى السفيرة الأمريكية بالقاهرة لبحث سُبل تعزيز التعاون في مجال الموارد المائية    ضبط تشكيل عصابي تخصص في سرقات الدراجات النارية بالمنيا    جيش الاحتلال الإسرائيلي يوسع نطاق دعوته لسكان جنوب لبنان بالإخلاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«المصري اليوم» تنشر عرضاً لكتاب د. يوسف زيدان الجديد قبل طرحه بالمكتبات «اللاهوت العربى وأصول العنف الدينى» كثير من الفكر كثير من الجدل (1)

ها هو يخطو خطوته الثانية فى عالم التنقيب فى تاريخ الديانات، مصرا على توضيح ما خفى منها بوثائق هو العالم بها، دون خوف من تكرار الجدل أو عودة الهجوم عليه. وإذا كان فى المرة الأولى نجح فى شحذ عقول البعض للعودة للتاريخ وقراءته بصورة مختلفة، وسن ألسن البعض الآخر للرد عليه فى حملة زادت من مبيعات روايته «عزازيل» التى صارت من أكثر الأعمال الأدبية العربية انتشاراً لتطبع خلال عام ونصف فقط 16 طبعة، منحته بعدها جائزة البوكر فى نسختها العربية للعام 2009،
فإن د. يوسف زيدان بكتابه «اللاهوت العربى وأصول العنف الدينى» الذى يستعد لطرحه فى الثالث والعشرين من شهر ديسمبر الجارى عبر دار نشر الشروق، يعرف يقيناً حجم ما ينتظره، ليس فقط من مسيحيى مصر الذين يحبون إطلاق لفظ «الأقباط» عليهم رغم تأكيده خطأ معناه الذى يعنى المصريين مهما كانت ديانتهم، حسب اللغة الهيروغليفية القديمة، ولكن من المسلمين واليهود أيضاً الذين يخوض د. زيدان بالبحث فى تاريخ ديانتيهم ليصبح ذلك اللاهوت حالة، يحاول بها مؤلفه تحريك عقول القراء ومنحها قدراً كبيرا من المعلومات التاريخية والتراثية، لا لتغيير معتقداتهم ولا درجة تقديسهم لما يؤمنون به، بل لكى يعيدوا التفكير فى مسلمات لم يمنحوا أنفسهم فرصة التفكير بها، وليعلموا أن الله واحد وأن الديانات الرسالية الثلاث ذات أصل واحد.
أهم ما يلفت النظر فى كتاب اللاهوت العربى هو منطقية العرض التى صاحبت صياغة الأفكار، فصاحبه لا يتحدث عن قناعة لديه إلا وأتبعها بما يدلل عليها، بشكل يمنح القارئ القدرة على التدبر فى سطور الكتاب حتى لو اختلف مع كاتبه فيه.
يتحدث عن رفضه توصيف الديانات الثلاث ب«السماوية» ويسوق مبرره.. يرفض ما يقال عن إسلامية علم مقارنة الأديان، ذاكراً الأسباب، يؤمن بعد صحة المقارنة بين الديانات الثلاث بل دراسة ما يجمع بينها، مؤكداً أنها ما هى إلا ثلاثة تجليات لجوهر دينى واحد. وفى سياق كل هذا يطرح العديد من الرؤى الجديرة بالتأمل، من بينها على سبيل المثال عدم جدوى دراسة التراث الإسلامى أو المسيحى أو اليهودى بمعزل عما سبقها من تراث فى أزمنة سابقة كانت بمثابة مقدمة لها.
ونأتى للمضمون فنجد أن كتاب اللاهوت العربى يتضمن مقدمة قال د. زيدان إنها اشتملت على تمهيدات ضرورية، وستة فصول، وخاتمة فيها خلاصة ما تمت مناقشته فى الكتاب.
«مقدمة لابد منها»
من الممكن فى كثير من الأحيان لنا كقراء، تجاوز مقدمات الكتب على أساس أنها لا تحتوى فى الغالب إلا على بعض الأفكار الخاصة بالكاتب، أو بمن صدر لكتابه ورؤيته وما يجيش فى نفسه عن الكتاب. إلا أن مقدمة كتاب د. يوسف زيدان لا تمنحك ذلك الخيار، لتضمنها الكثير من الحقائق الخاصة بالديانات الثلاث،
وكيف أن مصطلح «اللاهوت العربى» الذى يطرحه المؤلف للمرة الأولى يتضمن نقاطاً مفصلية مهمة ومهملة، تجمع بين تراث الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام. شارحاً وجهة نظره من خلال طرح عدد من الأقوال، تبدأ بفكرة نرددها جميعا أصحاب الديانات الثلاث دون أن يكون لها أساس تستند عليه، ألا وهى «سماوية الدين»، فيقول إننا نطلق على تلك الأديان الثلاث وصف «سماوى» على الرغم من عدم لجوء علماء كل دين لاستخدام ذلك الوصف لا فى البدايات ولا فى الأواخر، لأن كل دين هو بالضرورة سماوى لغة واصطلاحا. وهو ما يفسره د. زيدان بالقول: «أصل كلمة سماء فى اللغة، هو العلو، ولا يقع معناه على شىء ملموس محدد وإنما على أى سقف مهما كان حتى لو كان سقف حجرة.
والتعبير الأدق أنها ديانات (رسالية) أتت للناس برسالة من السماء عبر رسول من الله أو نبى يدعو له، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يمتد للكثير من التعبيرات الأخرى، ومن بينها صفة (الوثنية) التى ألحقتها المسيحية بالديانات الأخرى التى تحتفى بالأصنام أو الأوثان، رغم أنه لا يشترط أن تكون كل الديانات التى تحتفى بالتماثيل وثنية، كالبوذية مثلاً التى تحتفى بأصنام بوذا ولكنها لا تقدسه للتعبد، ولا ترى فيه صورة حجرية للإله. والدليل عدم غضب البوذيين من إصرار حركة طالبان على تدمير تمثالى بوذا فى (باميان) منذ عدة سنوات».
وينتقل بك د. يوسف زيدان للتعريف الثانى فى مقدمته، والذى يؤكد فيه على الجذور الواحدة للديانات الثلاث، مدللاً على ذلك بأن إبراهيم، أو إبرام، هو أبوالأنبياء فى الإسلام فهو والد النبى إسماعيل جد النبى محمد، وهو جد المسيح ابن داود فى المسيحية، كما أنه أبوالأنبياء اليهود جميعاً. وأن الاختلافات التشريعية بين الديانات الثلاث ما هى إلا نتاج خلاف الزمن بينما الجوهر واحد، رغم اعتراف الدين اللاحق بما سبقه وتنكر الدين السابق بما لحقه. فمهما كان موقف المسيحيين الغاضب من اليهود الذين قدموا المسيح إلى بيلاطيس البنطى لقتله، حسب رواية الأناجيل، ومهما كان موقف الإسلام المدين لليهود لتحريفهم كلام الله وقتلهم الأنبياء بغير حق، فإن كلتا الديانتين اعترفت باليهودية، بينما لم تعترف اليهودية بهما.
ونأتى للتعريف الثالث فى مقدمة «اللاهوت العربى»، الذى قد يغضب بعض المسلمين، حيث يفند هذا التعريف علم مقارنة الأديان، المختص بمقارنة المفاهيم فى الأديان، كقضية الألوهية على سبيل المثال، مؤكداً عدم صحة الزعم الإسلامى بامتلاك هذا العلم، نافياً ما يقال عن تقديم علماء المسلمين الأوائل لهذا العلم بالمعنى المتعارف عليه. ما عدا ما قدمه أبوالريحان البيرونى والإيرانشهرى مغمور، باعتبار أنهما قدما تأريخاً جيداً للعقائد أو مقاربة للأديان.
بينما ما جاء فى تراث ابن حزم والشهرستانى والمسبحى وغيرهم، لا يعد إلا وصفاً عاماً لعقائد الفرق والجماعات الإسلامية وغير الإسلامية، كما أن هؤلاء المؤرخين كانوا مسلمين ينتمون لمذاهب دينية معروفة، وليس من السهل أن يتسم صاحب الدين بحيادية تامة تجعله ينصف أدياناً أخرى مخالفة لما هو عليه - كما يقول د. يوسف زيدان - ليس هذا فحسب، بل إن علم مقارنة الأديان فى الإسلام اعتمد على إبراز محاسن الإسلام وتفوقه على ما عداه من الديانتين الأخريين، وهو ما يتعجب منه د. زيدان بالقول: «ماذا لو كان الذى قارن بين الأديان غير مسلم؟ وهل يرى غير المسلم الإسلام إلا كما يرى المسلم الديانات الأخرى؟
وما الفارق بين علم مقارنة الأديان المزعوم، وعلم اللاهوت الدفاعى فى المسيحية؟ ولهذا كله لا أهتم بمضمون ذلك التخصص المسمى بعلم مقارنة الأديان، بل إننى على قناعة تامة بعدم صحة المقارنة بين الأديان الرسالية الإبراهيمية، والأصح المقاربة بينها، فالمتصل التراثى من اليهودية للإسلام يشهد على توالى الاتصال بين الديانات الثلاث، وإن كان لابد من مقارنة فليكن بين تلك الديانات وغيرها مما سبق عليها لأن هناك خلافا فى الجوهر، كالمقارنة على سبيل المثال بين الإسلام وإحدى ديانات الهند، أو بين اليهودية والديانة المصرية القديمة».
ثم تأخذنا المقدمة لجزئية الفرضيات الأساسية ومن بينها أن التراث الإسلامى لا يمكن فهمه من غير التعمق فى الأصول العميقة له والأسبق زمناً عليه، فهى مقدمات له وهو امتداد لها، وهو ما ينطبق على المسيحية واليهودية.
ثم يطرح د. زيدان فرضية أخرى مفادها أنه ليس بالضرورة تأثير الأسبق زمناً فى الأحدث منه بل يمكن العكس. فيؤثر اللاحق فى السابق حين يتعاصران، مثلما أثرت الأفلاطونية المحدثة فى التراث اليهودى الأسبق منها ظهوراً من خلال شرح فيلون السكندرى للتوراة وتأويله لنصوص العهد القديم، وهى التأويلات التى صارت مع الزمن تراثاً يهودياً.
ويطرح د. زيدان مثلاً آخر أشد وضوحاً بقوله: «لقد استكملت المنظومة الدينية اليهودية لذاتها اعتماداً على الديانتين التاليتين عليها (المسيحية والإسلام) بإدخال فكرة البعث أو القيامة وما يتعلق بها من أخرويات، وهو ما قد خلت منه النصوص اليهودية المبكرة (التوراة وأسفار الأنبياء الكبار) وتم إدخالها فى النصوص اليهودية المتأخرة (كالمشناة والجمارا اللذين يؤلفان معاً التلمود) ومن هنا صارت عقيدة البعث جزءاً رئيسياً من الديانة اليهودية».
ويخرج د. زيدان من تلك الحقيقة بفكرة التفاعل بين الديانات الثلاث الذى لم يقتصر على التعاقب الزمنى كما يقول، بل تعداه للتعمق فى أصل كل دين منها، وإلى عمليات جدلية تؤكد حقيقة الجوهر الواحد لتلك الديانات الثلاث.
ثم يتناول الفرضية الأخيرة فى جزء الفرضيات والمتعلقة باختلاف اللغات التى تعبر عن المفاهيم الدينية بشكل يوحى للبعض باختلاف المعنى، وهو ما ينفيه د. زيدان مؤكداً أن المعنى المراد واحد، مثلما الحال فى يسوع الذى هو عيسى، ويوحنا المعمدان الذى هو يحيى بن زكريا والعذراء القديسة التى هى الصديقة مريم ابنة عمران. وهنا يتحدث عن تدخل الدوائر بين الديانات الثلاث، لتكون التراثيات المتزامنة متفاوتة المساحة بحسب ما أعطاه هذا التراث أو ذاك لأهل زمانه. لتتماس تلك الدوائر أو تتداخل وفقاً للظروف.
وهو ما يوضحه الكتاب بعرض رسم لثلاث دوائر متداخلة، تتماس اثنتان منها فتعبران عن المسيحية والإسلام، وتتداخل بينهما الثالثة وتعبر عن العروبة التى عاشت - كما يقول المؤلف - مرحلتين، أولهما مطمورة يعنى بها الزمن السابق على الإسلام والمعروف خطأً بالعصر الجاهلى، وثانيهما مشهورة تعبر عن حياة العرب مع مجىء الإسلام.
يقول د. يوسف زيدان: «المنطقة المتداخلة فى الدائرتين المعبرتين عن المسيحية والإسلام، يعبر الجزء الأصغر منها عن المنطقة التراثية الحافلة التى ينتمى لها اللاهوت العربى، بينما يعبر الجزء الأكبر فيها عن امتزاج العروبة بالإسلام، ويبقى جزء من الإسلام تأثر بمؤثرات أخرى غير العروبة، من بينها المشاركة الفارسية التى ساهمت فى صياغة مفردات الحضارة الإسلامية التى تحولت لظاهرة اتسعت لغير العرب على اختلاف ديانتهم التى احتفظوا بها كالفرس والقبط والترك».
وتأخذك المقدمة بعد ذلك للحديث عن ضبط المفردات التى يؤكد وجوب التعمق فى دلالاتها لضبطها وتحديدها لتلافى الغموض أو سوء الفهم. كتلك الصيغ التى تكتب بها أسماء المشاهير والأعلام، منهم الأسقف نسطور (المرعشلى) الذى ولد بقرية مرعش قرب حلب، والأسقف تيودور، الذى يشار له أحيانا باسم ثيودوروس الموبسويستى، وأحياناً أخرى باسم «تيودور المصيصى».
إلى جانب تسميات المراتب والألقاب الكنسية. وهناك أيضاً الخلط بين الروم والرومان، فالروم هى التسمية العربية لأهل الإمبراطورية البيزنطية المسيحية التى ورثت مجد روما، وكانت عاصمتها بيزنطة المعروفة باسم القسطنطينية وهى عند المسلمين الأستانة عاصمة الخلافة العثمانية، بينما الرومان هم أصحاب الإمبراطورية الشهيرة فى روما.
ثم يعرج كاتب اللاهوت العربى لمسمى كتابه بالقول إن المسيحية لم تعرف اللاهوت قط إلا من خلال بعض المحاولات التى أرادت الانتقال بالفكر الدينى المسيحى من الاشتغال بحقيقة المسيح للانشغال بالذات الإلهية. وهى المحاولات التى رفضتها الكنيسة الأرثوذكسية فسمتها «هرطقات» أى مذاهب دينية منحرفة عن الإيمان القويم. ويشير الكتاب إلى أن تلك «الهرطقات» ظهرت فى منطقة الهلال الخصيب شرق البحر المتوسط والتى سادت فيها الثقافة العربية فى العصر المسيحى من قبل ظهور الإسلام بقرون، وأدت لصياغة الأرثوذكسية ذاتها وصيغ قانون الإيمان المتعددة.
وقد سعت هذه «الهرطقات» لإنشاء لاهوت مسيحى لكنها لم تنجح إلا بعد ظهور الإسلام الذى دعم «الهرطقة النسطورية» و«الهرطقة الأريوسية». ومما يؤكد تواصل المسيحية بالإسلام كما يقول د. يوسف زيدان أن تلك «الهرطقات» ظهرت فى محيط جغرافى محدد بين جماعة بعينها من الناس وهما المحيط والجماعة نفساهما اللذان ظهر فيهما بعد ظهور الإسلام علم الكلام أو علم العقيدة الإسلامية أو علم أصول الدين الإسلامى.. الفارق الوحيد أن المحاولات الأولى ظهرت فى إطار المسيحية قبل ظهور الإسلام، بلغات كانت سائدة فى ذلك الوقت كالسُريانية اليونانية، بينما المحاولات الثانية ظهرت فى إطار الإسلام وكتبت باللغة العربية.
ونسأل الدكتور يوسف زيدان، لم يصر على مد يده نحو عش الدبابير ولم وضع هذا الكتاب الشائك؟ فيجيب: «هناك مناطق فى التاريخ البشرى الفكرى لاتزال مغيبة وغامضة، بل من الممكن القول إنها ملغومة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، واعتاد الناس أخذ ما ورد لنا من تلك المناطق على علاته بما فيه من مفاهيم ومعان يتم التعامل بها كمسلمات، ولذا أردت مساعدة القارئ الواعى الباحث عن المعرفة، الراغب فى التعرف على حقيقة الدين، وتقديم رؤية تساعد فى التعرف على البحث اللاهوتى والدراسات الكلامية، رغم معرفتى بكراهية البعض مسبقاً لما فعلت».
«جذور الإشكال.. صفات الله فى التوراة»
هكذا جاء عنوان الفصل الأول فى اللاهوت العربى، حيث يتناول هذا الجزء العديد من الإشكاليات التى وردت فى التوراة كحقائق، اعترفت بها المسيحية اعترافا كاملا، بينما نظر لها الإسلام بعين التشكك باعتبارها محرفة عن نصها الأصلى.
ومنها إشكالية «صورة الله». فالتعدد فى تلك الصورة لا يقف عند حد أسماء الله، ومنها «آدوناى، الرب، يهوه، ياهو، إيل، إلوهيم»، ولكنها تمتد إلى طبيعة الله وصفاته، ليظهر الله داعيا للخير والفضائل تارة، وأخرى مقدماً على أفعال الشر والعنف والانتقام، كما فى العبور أو الفصح، حينما نشر الله الرعب فى مصر إرضاءً لشعبه المختار.
ويستدل د. زيدان على هذا بآية من التوراة جاءت فى صورة خطاب إلهى لليهود فى مصر يأمرهم فيها بأن يذبحوا خرافاً ويضعوا دمها علامة على أبواب بيوتهم، ثم يقول: «فإنى أجتاز فى أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر فى أرض مصر من الناس والبهائم، وأصنع أحكاماً بكل آلهة المصريين، أنا الرب ويكون الدم علامة على البيوت التى أنتم فيها فأرى الدم وأعبر عنكم فلا تكون عليكم ضربة الهلاك حين أضرب مصر».
هنا يتوقف د. زيدان للتعليق بالقول: «وكأن الرب التوراتى المفترض فيه التعالى عن كل نقص، بحاجة لعلامة بصرية كى يميز بين بيوت أحبائه من اليهود حتى لا يضرهم سهواً بتلك النيران الإلهية الصديقة التى سوف تهلك أهل مصر؟».
ويتواصل عرض الدكتور زيدان لصفات الله التوراتية التى أظهرت الله فى بعض المواقع غاضباًً غيوراً من أبناء الله المفتونين بالنساء، أو حزيناً نادماً على خلق الإنسان فى الأرض، ثم حزينا نادماً على خسفه الأرض بالإنسان بالطوفان، أو قلقاً لأكل آدم من شجرة المعرفة فبات عارفاً مثل الإله، والله التوراتى يغار ويحقد على البشر ولذا فعندما يراهم يبنون حضارة بابل وبرجها الضخم ويتكلمون لغة واحدة، يغتاظ وينزل عليهم ويقرر بلبلة لسانهم ليتفرقوا فى الأرض ويتحدثوا لغات مختلفة لا يفهمونها، فيكفوا عن بناء المدينة التى تسمى بابل لأن الرب بلبل لسان كل الأرض كما جاء فى سفر التكوين الإصحاح الحادى عشر. ليس هذا فحسب بل تظهر التوراة الإله ضعيفاً يغلب عند مصارعة النبى يعقوب له كى يباركه ويمنحه النبوة بعدما اتخذ فى الصراع صورة بشرية كما فى سفر التكوين.
لا تقف تحليلات «اللاهوت العربى» عند صفات الله وقدرته فى التوراة، ولكنها تمتد لما هو أعمق منها حين تتناول حقيقة مهمة، مفادها أن ما يطرحه القصص التوراتى لا يقتصر خطورته على ما يطرحه من صفات بشرية يصعب إلحاقها بالذات الإلهية، ولكنها تمتد إلى قلب منظومة القيم الإنسانية التى نادت بها الحضارات البشرية والديانات الرسالية، حيث صار القتل مقبولاً والزنا بالمحارم كما فى قصة النبى لوط مع ابنتيه جائزا.
ليس هذا فحسب بل إن القصص التوراتى طرح إشكالية ثالثة حين جعل الله تعالى ملتصقاً بالأرض لا فى السماء يعيش فى خيمة قرب الإنسان، ليس على المطلق ولكن الإنسان اليهودى المولود من أم يهودية فقط، لأن الله فى التوراة لا يعبأ بغير اليهود الذين ينظرون لغيرهم من البشر على أنهم «أمميون» ناقصو الأهلية الإنسانية. وهو ما يقول عنه د. زيدان: «بتلك النظرة صار الرب مملوكاً لليهود دون غيرهم من بنى البشر، يتعامل معهم من دون بنى آدم، منهمكاً بحضوره بينهم فى الخيمة الأرضية التى عاشوا بها وهو ما عالجته المسيحية حينما توافقت مع اليهودية فى البداية وقالت إن الله يعيش مع الإنسان فى الأرض، ثم رفعته ثانية إلى السماء حيث الموضع الذى يليق به».
يذكر كتاب «اللاهوت» أن المسيح فى العقيدة الأرثوذكسية، هو الرب الكامل والإله المتجسد، وهو هو. وهو المصطلح الذى ظهر أثناء المناقشات الحامية بين الكنائس الكبرى قبل ظهور الإسلام، عند مناقشة طبيعة السيد المسيح «يسوع، عيسى، كريستوس، خريستو» ثم ظهر مصطلح «الهو هو» عربياً بعد الإسلام،
وتوسع المعتزلة فيه حتى صار نظرية كلامية تعالج مشكلة الصفات الإلهية عند المسلمين كما يقول د. زيدان الذى يرى أن الشروح والتأويلات التى قُدمت عبر تاريخ اليهودية من أجل إبقاء القداسة على تلك النصوص التوراتية كانت أبطأ فى الانتقال من اللغة التى كتبت بها التوراة، وهو ما أثر فى الانتباه لخطورة تلك النصوص. ليبقى الإشكال الذى طرحه القصص التوراتى قائماً غير مقبول لدى غير المؤمنين به حتى مجىء المسيحية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.