«لوكاندة السعادة» تحولت إلى «دار مسنين».. وطبيب يفتح عيادته داخل أكبر وكر للرذيلة 3 فتيات، ضحكاتهن تغازل المارة دون احترام لمسامع الشيخ «محمد»، الساكن على أول شارع «كلوت بك»، والذى نظر إليهن مستنكرًا، ومرددًا جملة: «مش جديد عليك المسخرة يا شارع المزاج». كلمات الشيخ «محمد» استوقفت «الصباح» داخل أحد أكبر شوارع القاهرة المعروف قديمًا بأنه كان محلًا للبغاء وممارسة الرذيلة، حيث كانت هناك تراخيص تتيح فتح بيوت الدعارة فى العلن فى العهد العثمانى، إلى أن تم إلغاء البغاء الرسمى فى مصر على يد شيخ البرلمانيين المصريين «سيد جلال»، الذى كان نائبًا عن دائرة باب الشعرية، وتضم أشهر شوارع الدعارة، حيث تقدم إلى وزير الشئون الاجتماعية بطلب إحاطة حول دور البغاء، وتضمن الطلب إصدار قانون بحظرها وتم إقرار المشروع بالبرلمان رغم المعارضة القوية له قبيل ثورة يوليو، ومرت الأيام ولم يعرف أحد بعدها مصير تلك البيوت، وحاولت «الصباح» رصد مصائرها ومعرفة أبرز سكانها والمترددين عليها. «لم يعلم الشيخ شيئًا عن تاريخ البيت الذى سكنه بعد أن حضر من محافظة أسيوط ليسكن فى شارع كلوت بيه، وبالتحديد فى ثالث عقار بالشارع، لكنه علم بعدها، واستمر فى السكن لعدم قدرته على النقل إلى عقار آخر»، هذا ما قاله «عبد الرحيم محمد» حارس أحد العقارات القديمة بالحى، خلال وصفه لما حدث منذ أكثر من 40 عامًا، عندما كان هو وأسرته يقيمون بالشارع فى حراسة أحد العقارات، وكان وقتها عبد الرحيم شابًا فى ريعان شبابه، وكان والده المسئول عن حراسة العقار، وقد أتى إليهم شاب عشرينى بعمامة يطلب السكن، وبالفعل استأجر الشيخ شقة ومكث بداخلها أكثر من شهر لم يكن يعلم خلالها أن هذا البيت كان مقرًا لممارسة الرذيلة رسميًا، وبعد أن علم الحقيقة من صاحب أحد المحلات بالحى، وقع عليه الأمر كصدمة فى البداية، وظل يتأخر فى رجوعه إلى المنزل حيث يعود متأخرًا وينزل فى ساعات مبكرة من اليوم، لكنه استسلم فى النهاية وأكمل حياته بشكل طبيعى لأكثر من 3 سنوات فى نفس المنزل، وعندما سأله صاحب المحل الذى أبلغه بحقيقة شقته السكنية أجابه: «لو فى استطاعتى لتركت هذا المنزل بلا عودة لكن الظروف دائمًا لا تأتى كما نريد». بلا لافتة، وبأقل التكاليف، قرر ابن أحد الأهالى أن يشترى إحدى الشقق التى كانت مرخصة لأغراض الدعارة ويغير نشاطها لتصبح عيادة طبيب باطنى، ولم لا؟ فقد صرف عليه والده مبالغ طائلة حتى تمكن من دراسة الطب وتخرج من كلية الطب فى بداية السبعينيات، كما قال «عبد الرحيم، ووجدها فرصة رائجة أن يستأجر العقار الموجود بالقرب من سكنه ليكون بداية لعيادة صغيرة تعتمد بالأساس على أهالى المنطقة، نظرًا لأن الإيجارات وقتها كانت بأسعار زهيدة جدًا وكان على أمل أن ينسى المجتمع الوصمة التى ألحقه بها تاريخ هذا الشارع، إلا أن هذا لم يتحقق على الإطلاق. كان يُطلق عليه قديمًا، درب الأجانب، وكان مخصصًا للأجانب المستوردين من الخارج خاصة فى فترة الاحتلال على مصر، وبالتحديد من قلب حى الأزبكية حيث كان ينتظر الأجانب الوافدين إلى الشارع، ويطلبون داعرات بمواصفات معينة، حتى ابتعدت عن الشارع الباغيات المحليات، كما وصفوهن فى تلك الفترة، وفقًا لما قاله «أحمد. ش» أحد ساكنى المنطقة والبالغ من العمر 65 سنة، وأوضح أن الشارع فى تلك الفترة كان له باب على اعتبار أنه مكان مخصص للأجانب من البغايا ولا يُسمح لأى فرد أن يدخله إلا بإذن، وقد أوضح «أحمد» أن المكان الآن تحول إلى مزارات لبيع التحف والأنتيكات، ونصفه الآخر تحول إلى سوق للخضار، أما البيوت التى كانت مرخصة فيه لممارسة البغاء فتركها أهلها وباعوها وتم استغلالها كمنازل سكنية. «لوكاندة السعادة».. كانت موجودة قديمًا كمنزل كبير متعدد الشقق والغرف بمنطقة وسط البلد يتزعمه الشخص المسئول عن استئجار الغرف للأعمال المشبوهة، وبعد تعديل القانون وغلق العقار عاد فيما بعد ليعمل ولكن كلوكاندة، وعلى الرغم من عمل تجديدات لها من القائمين عليها فإن حالتها لم تتحسن بشكل ملحوظ، نظرًا لعدم وجود إمكانيات لإصلاحها، كذلك لضيق مساحة المكان نفسه، ووفقًا لما يقول «سعيد الهوارى» أحد قاطنى الشارع، أن اللوكاندة يتردد عليها كبار السن بشكل شبه منتظم، وكذلك طلاب جامعات ومغتربون، وموظفون يكونون فى حالة انتداب لأعمالهم فى القاهرة لمدة قصيرة، فيفضلون أن يمكثوا فى القاهرة فى أماكن ذات تكلفة منخفضة خاصة أنهم ليسوا من أهل الحى ولا المنطقة بأكملها ولا يعلمون الكثير عن تاريخها. الدكتور حسن الجناينى، كبير الباحثين بالأزهر، قال ل«الصباح»، إنه بالنسبة لأسماء الشوارع التى اشتهرت خلال حقبة معينة من الزمن بأنها كانت تدار للأعمال المنافية للآداب على الدولة أن تتحرك لتغيير أسماء مثل هذه الشوارع، خاصة أن اسم شارع «كلوت بك»، وهو من أشهر الشوارع التى اشتهرت فى هذا التوقيت بالبغاء، فإن الأفضل أن يتم تغيير الاسم، خاصة أن الإنسان بطبعه يرتبط بالاسم الذى شاع عنه هذا الوصف، لافتًا أنه فى الماضى كانت هذه الشوارع تدار لمثل هذه الأمور، أما الآن فقد تغير الزمن، وبالتالى لابد أن يتم القضاء على ذكرها بمعنى أن يتم تغيير أسماء الشوارع ببعض رموز الدولة من الذين أفنوا حياتهم فى خدمة مصر. وأضاف الجناينى أن هناك أسماء كثيرة غير مرغوب فيها، وقد غير الرسول عليه الصلاة والسلام أسماء بعض الأشخاص، فكان هناك على سبيل المثال اسم «جمرة»، وأسماء كثيرة غيرها النبى. وعن ترك المعيشة فى هذه الأماكن أوضح الجناينى أنه من غير المرغوب فيها أن يترك الإنسان محل سكنه، فالأفضل أن يغير الاسم فقط، طالما لا يتم عمل أى فاحشة أو منكر فى هذه الشوارع، والمسلم طالما يذكر الله ولا يقيم الفواحش فمن حقه أن يسكن بأى مكان. الدكتورة سهير حواس، رئيس الإدارة المركزية بالجهاز القومى للتنسيق الحضارى، وصفت ل«الصباح»، شارع كلوت بك، بأنه شارع الترفيه فى زمن الخديوية، قائلة إنه تم تصميمه فى تصاميم هندسية مشيرة إلى عظمة الرؤية المستقبلية للمهندس الذى أقامه، والشارع يبدأ من رمسيس التى كانت تدعى باب السكة الحديد سابقًا متفرعًا لشارع إبراهيم باشا، وينتهى عند الخازندار ملتقيًا بشارع نجيب الريحانى ويتفرع عند كنيسة المرقسية، مشيرة أن الشارع كان يضم العشرات من الفنادق الترفيهية نظرًا لموقعه الذى يتواجد بالقرب من السكة الحديد ومحطات العربات القادمة من المحافظات المختلفة، فكان يأتى إليه القادمون من المحافظات والسياح للسكن فى تلك الفنادق وزيارة الأماكن الترفيهية من مسارح ومقاه ومطاعم وحفلات أفلام. وأوضحت أن فنادق البغاء كان يتوافد إليها السياح الأجانب، ويقطنها الجنود الفرنسيون الذين كانوا يحتلون مصر فى تلك الحقبة من الزمن، مشيرة إلى أنه زمن الحملة الفرنسية كانت تلك الفنادق فى شارع كلوت بيه تضم مساكن للبغاء التى كانت تتم بطرق قانونية ومصرح لها ويتم الكشف عنها بشكل متتابع كل فترة من الصحة والأمن، وتابعت أن مساكن البغاء كانت نظرًا لوجود احتلال أجنبى يؤمن فى تقاليده بتلك الأمور، مؤكدة أن تلك الوظيفة لن تعود أو يصرح لها قانونيًا لأنها ليست من تقاليد المجتمع ولا مسموح بها فى قوانيننا المصرية وتعتبر دعارة وأمورًا مخلة بالآداب العامة. أحمد مراد، مؤلف رواية 1919، التى تناولت القصص التى كان يعيشها القاطنون فى شارع كلوت بيه، أوضح ل«الصباح»، أن الفترة الزمنية غيرت ملامح الشوارع خاصة أن هناك تغيرات حدثت عليه، مطالبًا بأن تكون هذه الشوارع بمثابة منطقة حضرية ويتم تخليدها بالإضافة إلى تطهيرها من كل أشكال البغاء ويتم ترميمها.