*قصة رفض البابا تواضروس مقابلة دبلوماسيين أجانب بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة الكنيسة المصرية «عاشت وشافت الكثير».. هذا ما يقوله التاريخ عن أشقائنا فى الوطن وفى المحن وفى لحظات الفرح القليلة فى عمر مصر، لكن ما عاشته الكنيسة وروعت به مع المسلمين منذ أحداث 25 يناير كان هائلا، ولأن المحن تنتج وتفرز رجالها كانت مصر فى لحظات تحتاج فيها أشد الاحتياج إلى «رجال كبار» ففى الوقت الذى كانت فيه مصر وباسم «الثورة» يجتاحها زلزال فوضى يضرب كل عصب حساس فيستهدف مرة العلاقة بين المسلمين والأقباط، ويستهدف فى الأخرى العلاقة بين الجيش والشعب برز رجال كبار فعلا وقولا أولهم اسمه «عبدالفتاح السيسى» خرج مثل أبطال الأساطير من قلب «جيش مصر» ليوقف مهزلة الفوضى باسم الدين قبل أن ينتقل محمولا على أعناق المصريين إلى رئاسة البلاد، وثانيهم «أحمد الطيب» شيخ الأزهر الذى نفخ من روح المؤسسة العريقة فى قيم التسامح المصرى والتدين الأصيل، وثالثهم «البابا تواضروس» الذى كان قد تمت رسامته» بابا للأقباط «الأرثوذكس وسط أنواء عاتية، من ناحية كانت الكنيسة المصرية تودع البابا التاريخى «شنودة» بعد أربعين عامًا ملأ فيها الدنيا وشغل الناس وبدا للجميع أن شغل مكانه ومكانته أمر شاق على من يأتى من بعده، ومن ناحية أخرى فقد تبوأ «تواضروس» كرسى البابوية وسط صعود «الإخوان المسلمين» إلى البرلمان ثم كرسى الحكم بمشروعهم الطائفى المعادى ليس فقط للمختلفين دينيا بل أيضًا للمسلمين المختلفين مع توجيهات وإرشادات المرشد القابع فى المقطم، هذا الأسبوع يكون قد مر عامان على تولى تواضروس كرسى البابوية فماذا فعل وماذا حدث؟ وهل نجح حتى الآن فى اختبار ملء المكانة الكبيرة التى كان يشغلها «البابا شنودة»؟ وهل اجتاز الصعاب؟ وكيف وإلى أين يسير بالكنيسة المصرية العتيدة؟.. هنا إجابة على كل هذه التساؤلات. فى البداية بدا من تحقيق واسع حول تاريخ «تواضروس» وصولا إلى توليه المنصب الدينى الأرفع لدى الأقباط أن الرجل على موعد دائم مع «التاريخ»، فقد ولد يوم 4 نوفمبر 1952 وهو نفس اليوم «4 نوفمبر» الذى أصبح فيه بابا للأقباط لكن فى عام 2011 وبعد شهور قليلة من اندلاع ثورة يناير، هو.. «وجيه صبحى باقى سليمان» المولود فى المنصورة لوالد كان يعمل مهندس مساحة وتنقل الوالد بالأسرة بين عدة محافظات لطبيعة عمله، مما أتاح للفتى الصغير «وجيه» رؤية مصر عن قرب والاحتكاك بكل الطبقات والفئات، وقبل أن يصبح الطفل المهذب عاشق القراءة والصمت المعروف بتنظيمه الشديد لوقته، وعدم انغماسه فى اللعب مع أقرانه شابا كان على موعد آخر مع التاريخ، ففى يوم 3 يونيو 1967 وقبل حرب 67 بيومين فقد والده، وكان فى طريقه لأول أيام امتحان «الإعدادية» وأثر تزامن الحدثان فى نفسه تأثيرًا بالغًا مما جعله يقرر الدخول فى خدمة الكنيسة، ومنذ صباه لم يكن «وجيه» مشغوفًا بالضجيج حوله بل عاكفًا على تأمل نفسه ووطنه والعالم، وبدأ «الخدمة» فى صيف عام 67 فى كنيسة الملاك الأثرية بدمنهور، ومن جديد وجد ملمحًا من التاريخ يصنع أمامه، فقد كان هذا الدير هو الذى يقضى فيه البابا شنودة يوما كل أسبوع، وقضى فترته الجامعية فى الإسكندرية، حيث تخرج فى كلية الصيدلة بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وتدرج فى المناصب الكنسية إلى أن جاء العام 2011 حيث فقدت الكنيسة والوطن البابا شنودة الثالث بابا الكنيسة المرقسية وتلفتت الأنظار فى الداخل والخارج عمن يخلف البابا التاريخى الذى أطلق عليه الجميع «بابا العرب» لمواقفه الوطنية والقومية المشهودة، وكان مطروحًا لخلافة شنودة خمسة أسماء، وصام الأقباط أيامًا فى انتظار الإعلان عن اسم البابا إلى أن جاءت اللحظة الفاصلة بإعلان الأنبا باخوميوس القائمقام نتيجة القرعة الهيكلية عندما قام الطفل بيشوى جرجس بالتقاط الكرة التى تحمل اسم البابا الجديد، وهى لحظة لم يشاهدها فى حياتهم نصف أقباط مصر ممن عاشوا أربعين عاما والبابا هو شنودة الثالث، وكانت لحظات من الصمت الرهيب والطفل يلتقط الكرة إلى أن أعلن الاسم «البابا تواضروس» فتعالت الهتافات والزغاريد المصرية الرائعة فى جنبات الكاتدرائية. لكن البابا الجديد وجد نفسه أمام عواصف وأنواء عاتية ففى ذروة صعود تيار الإسلام السياسى كانت كل كلمة يمكن أن تفسر على أكثر من جهة، فالأعصاب مشدودة وملف العنف الطائفى الذى كان يمكن احتواؤه فى ظل دولة مستقرة يمكن أن يتجدد فى ظل دولة تواجه مؤامرات ممتدة ومفاجئة وعلى أكثر من جبهة، وعندما صعد محمد مرسى إلى رئاسة مصر أبدى البابا تواضروس مرونة كبيرة فى التعامل فى الشهور الأولى مع حكم بدا من إشاراته وقراراته ودستوره أنه ينحو بمصر إلى طائفية لم تعرفها طيلة تاريخها لكنه سار مع الجماعة الوطنية المصرية خطوة بخطوة فانسحب ممثل الكنيسة من لجنة الدستور فى نفس توقيت انسحاب غالبية الشخصيات الوطنية والحزبية، كما استطاع البابا عدم الانجرار لملاسنات طائفية بغيضة انتشرت على قنوات ومواقع الفتنة التابعة للتنظيم الإرهابى الذى تكن من حكم مصر، لكن الأمور تصاعدت وكادت تنذر بفتنة عارمة مع وصول قوافل المتطرفين إلى أبواب الكاتدرائية المرقسية فى العباسية لأول مرة فى التاريخ، فسابقًا كانت الأحداث الطائفية تتم فى إحدى الكنائس فى إحدى القرى أو المدن البعيدة عن السيطرة الأمنية قبل أن يتم احتواؤها لكن هذه المرة وتحت قصف إعلامى كثيف تم الاعتداء على الكنيسة «الأم» التى يتواجد بها البابا وكبار الأساقفة، لقد توفى اثنان فى أحداث العنف هذه التى جرت فى شهر أبريل 2013 وأصيب العشرات وحاول الكثيرون من أنصار مرسى استفزاز البابا والأقباط على الرغم من خروج مرسى بتصريح رئاسى تمثيلى وبارد يقول فيه «الاعتداء على الكنيسة المرقسية اعتداء على شخصيا» وتعامل البابا تواضروس بحكمه وجرت الإجراءات القانونية لضبط المعتدين، ورفض تواضروس إغراءات خارجية لسكب وقود على نيران امتدت على أبواب كنيسته، وكان ما قاله أنه يدعو الله بالهداية لكل المعتدين، إن محاولة إشعال فتنة طائفية ودينية التى جرت فى أوضح صورها فى ميدان «رابعة العدوية» بعد سقوط مرسى كانت حاضرة بقوة فى رئاسته، فبعد أن مر الاعتداء على الكنيسة بسلام ولم تفلح جهود إشعال الفتنه لم تكد تمر أيام حتى أشعل المتطرفون فتنة جديدة فى مدينة «الخصوص» بمحافظة القليوبية، حيث تعمد بعض أنصار الإسلام السياسى كتابة عبارات مسيئة على جدران إحدى الكنائس واشتعلت الفتنة ومات اثنان وأصيب العشرات واحترقت بعض السيارات لكن البابا تواضروس لم ينجرف لمحاولات جره وجر الكنيسة إلى أى تصريحات تبعده عن المسار الوطنى، وتدخل مصر فى نفق طائفى هناك من يمهد له ويحاول أن ينفخ فيه من روحه، لم ينس الإخوان لتواضروس أنه تعامل بحكمه، لم ينسوا له أنه كان ضمن كل الوطنيين المصريين ممن رفضوا لقاء مرسى فى قصر الاتحادية لمناقشة أزمة الإعلان الدستورى، وكان ما قاله تواضروس وقتها هو نفس ما قاله كل المصريين الرافضين لحكم الإخوان من أن الرئيس «المنتخب» يقود البلاد لمصالح جماعته ولا يلتفت لمن سواهم، وفى بيان 3 يوليو الذى أعلن فيه الفريق- وقتها- عبد الفتاح السيسى عزل محمد مرسى بعد ثورة شعبية هادرة كان البابا يقف إلى جوار شيخ الأزهر متحملا ضغوطًا هائلة واحتمالات لتصاعد العنف ضد الأقباط لكنه من جديد أكد عمق مواقفه الوطنية وسار إلى جوار باقى المصريين باتجاه هدف واحد أجمع عليه الجميع، إزاحة الإخوان والطائفية عن الحكم. فى أعقاب فض اعتصامى النهضة ورابعة العدوية كانت الكنيسة المصرية فى مواجهة واحدة من أعقد وأصعب المواقف فى تاريخها، حيث جرى إحراق ومداهمة أكثر من مائة كنيسة على مستوى الجمهورية فى توقيت واحد، والذى لا يعرفه الكثيرون أن سفراء ومندوبين عن عواصم غربية طلبوا من البابا تواضروس إصدار بيان يطالب المجتمع الدولى بإنقاذ الأقباط والكنائس فى مصر لكن البابا تواضروس رفض ذلك بحسم، بل وربما لم يناقشه من الأصل، بل إن مصادر مقربة من الكنيسة أكدت لنا أن البابا رفض حضور الجلسات مع هؤلاء المندوبين إلا بحضور ممثلين عن الدولة المصرية، وأعقب ذلك بتصريح أثلج صدور المصريين وأعاد إلى الأذهان قوة تصريحات البابا شنودة وعباراته التى لا تنسى، فقد قال تواضروس «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن» كما قال لمراسلى الصحف الأجنبية فى مؤتمر صحفى عبارة نعتقد أنها ستظل عالقة فى الأذهان «إن للحرية ثمنًا غاليًا وإن حرق الكنائس هو جزء من ثمن نقدمه لبلادنا بصدر رحب» وأردف قائلا: «هتحرقوا الكنايس هنصلى فى المساجد، هتحرقوا المساجد هنصلى فى الكنايس هتحرقوا الاتنين هنصلى فى الشارع مع بعض ووسط بعض كمصريين» ودوت القاعة بتصفيق عاصف لم يتناسب مع هدوء نبرات البابا تواضروس وهو يلقى كلمته، على جانب آخر فقد أمضى البابا تواضروس العامين الماضيين فى إصلاحات جذرية للكنيسة، وكما تقول مصادر كنسية فإن البابا شنودة عرف ب «التعليم» والبابا كيرلس عرف بالمعجزات لكن البابا تواضروس عرف ب «التنظيم»، وقادته الإصلاحات الكنسية إلى مواجهة اعتراضات قلة ممن يخلطون بين ثوابت العقيدة ومتغيرات الزمن، فقد أتاح تواضروس لأول مرة تحضير الميرون بدلا من طبخه واعترض البعض معتبرين هذا تغييرا فى أصل من أصول العمل الكنسى وكان فى مقدمة المعترضين القس جوارجيوس عطالله معد الميرون لفترة طويلة قبل أن يقتنع الجميع أن الموضوع لا علاقة له بأى أصل من أصول العقيدة، كما أعاد تواضروس وهو يعيد إصلاح وهيكلة الكنيسة القس الموقوف أندراوس عزيز إلى رتبته الكهنوتية، ومنناحية أخرى خطا البابا تواضروس خطوات واسعة على طريق التقارب بين الطوائف المسيحية الأخرى، وخلال أيام يترقب المسيحيون فى مصر والعالم اجتماع المجمع المقدس الذى سيناقش قرارا باعتماد «معمودية الكاثوليك» ولو تم هذا فسيكون حدثا ضخما فى تاريخ الكنيسة إلى جانب ما قام به تواضروس من تفعيل مجلس كنائس مصر الذى يضم اتحادا بين الكنائس المصرية الثلاث، على المستوى الدولى لم يفت البابا تواضروس التحرك السريع الفعال من أجل تأكيد قوة ونفوذ الكنيسة المصرية حيث قام بالعديد من الزيارات الخارجية وهى ربما أكثر رحلات خارجية يقوم بها بابا مصرى فى توقيت قياسى وكانت آخر هذه الزيارات لروسيا، حيث التقى قادة الكنيسة الروسية وقبلها شارك فى مؤتمر نظمته هيئة «براودينتا» النمساوية المعنية بالحوار بين الأديان وفى هذه الزيارات وغيرها كان يعدم الموقف المصرى عالميا خاصة وتأكيد أن ما جرى فى البلاد فى 3 يوليو كان ثورة شعبية، من ناحية أخرى يخوض تواضروس فى ملف الزواج الثانى للأقباط وهو ملف معقد، ويشكل أزمة دائمة ويحتاج إلى قرارات بابوبة ثورية لا تتعارض وأصول العقيدة المسيحية، وهو ما يتوقع أن يفعله لطيف شاكر الناسط القبطى بالهجر الذى قال ل«الصباح» إن البابا سيتعامل مع هذا الملف مثل غيره من الملفات بروح إصلاحية حاسمة حتى وإن وجِهَ بمعارضة من البعض. هذه القرارات المنتظرة إضافة إلى ما فعله البابا وطنيا وكنسيا وعلى كل الأصعدة يجعل مرور عامين على تولى البابا تواضروس حدثا يطمئن المصريين على أن الرجل يتعامل بحكمة، ويقود الكنيسة فى اتجاهها الصحيح جزءا من الوطن والثورة وضد الجمود والإرهاب.