أصدر مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ديواناً شعرياً مترجماً عن اللغة الألمانية للشاعر الألماني كلاوس رايشرت بعنوان "وجه في الغيوم"، نقله إلى العربية مصطفى السليمان. يتضمن الكتاب المجموعة الشعرية الأخيرة لهذا الشاعر، الذي يتناول في قصائده حالة "البين بين"، التي يمر بها الإنسان حين يسمع اسمه وكأنه ثقيل على مسمعه، يوحي له بأنه غريب على هذه الحياة وتائه كقطيع ماشية يعبر متاهات شاسعه. ولا يبتعد رايشرت في قصائدة عن الطبيعة رغم حالة التشاؤم والتأمل الدائم التي تخيم على نصوصه. فها هو يتحدث عن الطرقات التي يراها من على متن السفينة التي تمخر في المحيط، وثمة غابات وجبال متعرجة وخرائب، يربطها بحكايات السندباد. يسوق الشاعر أفكاره المبعثرة، ليروح بالقارئ بعيداً إلى حلم غريب: "ستكون لك يوماً ما / الأحلام / تهبط عليك مثل طيور فزعة / إنها الطيور التي أغلقت فمك...". يتأمل رايشرت النجوم وينساب في حلمه كأنه "قارب تحرسه النجوم / غافياً مثل سنبلة مرت عليها ريح هادئة / مرهفة تشع النجوم في السماء / البحيرة تسعني تماماً". وربما يتذكر القارئ العربي شعر بدر شاكر السيّاب حين قال: "إذا ما هزت الأنسام مهد السنبل الغافي / وسال أنين مجداف." هذه الصورة التي استوحاها مخيال السيّاب واستعاد بها الماضي مستحضراً إياه في واقع المرض والذكريات والحنين والبؤس، ربما هي قريبة في مغزاها من الحالة التي تؤجج كلام الشاعر الألماني كلاوس رايشرت. الليل والنهار والماء والسماء والغيوم والصمت الذي لا ينتهي والذي يحس به الشاعر في الكلمات الغائبة يغلب على أجواء قصائده بشكل عام. لكن رايشرت لا يتوقف عند هذا النوع من القصائد بل يروح بعيداً إلى الحضارة اليونانية القديمة ليستوحي من تلك المثيولوجيا أسطورة أنتيغونيا، التي يلقي بها على الجزر اليونانية في حاضرها ولا يرى مخرجاً من حالة العزلة إلا في الكلمات. كيف لا يكون الأمر كذلك وكلاوس رايشرت هو أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة فرانكفورت ماين الألمانية، التي تحمل اسم الشاعر الألماني الكبير غوته، على مدى 30 عاماً ومترجم شكسبير وهو من أعاد ترجمة نشيد الأنشاد إلى اللغة الألمانية ونال عليها جائزة أدبية. وربما من هنا جاء تأثر كلاوس رايشرت بحضارات الشرق وأساطيره، إضافة إلى زياراته للشرق. يقول في قصيدته "في بلاد الغربة": "كهل هو جبل نبو / لا أعشاب / لا نيران / لا أصوات / في بلاد الغربية / السنوات .. الأيام .. تتلعثم / ألست من أقنع الصخرة بالرحيل إلى الماء / ساعة سخر الآخر مني / نعم / فعلتها متأخراً وغاضباً". ويختتم رايشرت ديوانه بقصيدة يسميها "سيرة ذاتية" يروي فيها حياته كأنها حديث على طاولة مجاورة، يسمع بعضاً مما يقال دون أن يفهم عما يدور الحديث ويشرب ما تبقى من كأس الحياة البارد. وفي حديث خاص حول مشروع "كلمة" ذكر الشاعر الألماني كلاوس رايشرت أنه يكن كل التقدير لهذا المشروع الطموح ويدعو للمزيد من مثل هذه المشاريع الأدبية المهمة التي تقرب الثقافات والشعوب من بعضها البعض وتعرف المرء بوجه الإنسانية الأجمل المتيم بالتسامح والمحبة والسلام والاعتراف بالاختلاف وبالآخر، الذي هو الذات أيضاً.