الإعلام الخاص : أزمة صناعة أم أزمة ضمير د.محرز حسين غالي مما لاشك فيه ، أن الإعلام الخاص : صحفا وقنوات تليفزيونية ، ومحطات إذاعية ، ومواقع اليكترونية ، كان ولا يزال يمثل إضافة حقيقية لمنظومة الإعلام المصري ، منذ منتصف التسعينيات وحتى الآن ، حيث جاء هذا النمط من الإعلام ليشكل ظاهرة خاصة ، لها سياقاتها وخصائصها وفلسفتها ومنطق إدارتها ، الذي جعلها تبدو بشكل أو بآخر متمايزة تماما عن الإعلام القومي والحزبي السائد . وقد تجلى ذلك عبر كثير من العناصر والمؤشرات والممارسات ، لعل أهمها : تزايد هوامش الحريات الصحفية ، التي بدأ هذا النمط من الإعلام في توظيفها ، واستغلالها أسوأ استغلال ممكن ، لكسب مساحات جديدة في أسواق المنافسة ، في الوقت الذي تكلست فيه الصحف القومية والحزبية القائمة ، والإعلام المرئي والمسموع المملوك للدولة ، وأصابها الجمود ، وتراجعت في أداء وظائفها ، وأدوارها الحقيقية ، نتيجة لسيطرة السلطة عليها ، أو حتى نتيجة لتبعيتها المطلقة للأحزاب التي تملكها ، وتقييد سياساتها التحريرية والإعلامية بتوجهات السلطة وتصوراتها ، دون إدراك حقيقي لمفهوم الإعلام ووظائفه . يضاف إلى ذلك تبني هذه المنظومة الإعلامية الجديدة ، المملوكة لرجال الأعمال في الأساس لمداخل حديثة في الإدارة والتسويق ، تستند إلى معادلات سوقية في الأساس قوامها ما أطلق عليه في الأدبيات الغربية market-driven newspaper ، أو الصحف الموجهة باحتياجات السوق ورغبات العملاء والمستهلكين ، فنقل رجال الأعمال "ملاك " هذه الصحف تصوراتهم في إدارة استثماراتهم الخاصة والتجارية ، إلى مؤسساتهم ومشروعاتهم الوليدة ، وبدأو يتعاملون مع هذه المشروعات الصحفية باعتبارها مشروعات استثمارية في المقام الأول ، يستهدفون من خلالها مضاعفة أرباحهم ، والتسويق لأنشطتهم التجارية والاقتصادية ، ناهيك عن إدراكهم الكامل ووعيهم بخطورة هذا الإعلام ، وأهمية دوره في حماية مصالحهم والدفاع عنهم ، والتعبير عن رؤاهم وتصوراتهم السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية ، فاستطاع هؤلاء الأباطرة الجدد بما يمتلكون من ثروات ضخمة ، تكونت في معظمها عبر صفقات مشبوهة واستثمارات لا تمثل قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني ، أن يجعلوا من هذه الظاهرة الإعلامية - الحديثة نسبيا - أمرا واقعا ، بل استطاعوا نتيجة غياب دور الدولة ، ونتيجة لعدم وجود ضوابط لتنظيم سوق المنافسة ، ونتيجة لفشل منظومة الإعلام القومي والحزبي في تطوير نفسها وقدراتها ، من السيطرة على السوق تدريجيا ، حتى أصبحت هذه الظاهرة الإعلامية في أقل من عشرين عاما ، تتصدر المشهد السياسي والإعلامي في مصر الآن . والحقيقة فإن أي كاتب ، أو باحث ، أو ناقد منصف ، لا يستطيع بحال من الأحوال أن يغفل ، أو يتجاهل أهمية الدوروالأثر ، الذي ترتب على وجود الإعلام الخاص في مصر ، فهو رغم كل سوءاته ، قد أسهم بدرجة كبيرة في تحريك بحيرات المياه الراكدة والآسنة ، التي تشكلت بفضل تراجع مستوى الإعلام القومي والحزبي ، منذ نهاية الثمانينيات وحتى الآن ، وما صحبها من ظواهر لافتة ، تملثت في عزوف المشاهدين والقراء عن الصحف والقنوات التليفزيونية المملوكة للدولة ، والصحف الحزبية على السواء ، فبدأ هذا الإعلام الخاص – مدركا بشكل جيد لطبيعة معادلات السوق وشروطها – يطور من أدواته ، ومن لغته ، وبدأ يضع لنفسه أجندة قضايا خاصة ، وأولويات متمايزة ومغايرة ، عن تلك الأجندة والأولويات التلقيدية السائدة في خطاب وسائل الإعلام القومية والحزبية ، كما أتاح هذا الإعلام الفرصة كاملة لجيل جديد من شباب الصحفيين ، في تحمل المسئولية ، والمشاركة في إدارة العملية التحريرية ، وفي تولي المواقع القيادية ، التي حرموا منها في الصحف القومية والحزبية ، كما أتاح لهم الفرصة وأطلق العنان لمواهبهم وقدراتهم ، التي استطاعوا التعبير عنها بقدر كبير من الحرية لم يكن مسموحا به في وسائل الإعلام القومية والحزبية ، واستطاع هذا الإعلام من خلال استقطاب العناصر الشابة ، التي تتسم – في معظمها - بقدر كبير من الموهبة والكفاءة ، أن يفتح الكثير من الملفات والقضايا المسكوت عنها ، والتي كانت تمثل تابوهات محظورة في الصحف ، خاصة القومية منها ، والحزبية وإن بدرجة أقل ، واستطاع هذا الإعلام الخاص أيضا أن يخلق لنفسه مكانة سوقية بين هاتين المنظومتين ، واستطاع هذا الإعلام بالفعل أن يحقق نجاحات كبيرة على صعيد الكم والكيف معا ، بل إن هذا النجاح الكبير الذي حققه ، قد أغراه وأغرى ملاكه ، بالسعى بشكل تدريجي لترسيخ مكانته السوقية ، ومحاولة إزاحة المنظومتين القديمتين والاستحواذ على السوق بشكل كامل . إلا أنه وبالرغم من كل هذا وذاك فإن ثمة ملاحظات رئيسية وجوهرية على هذا الإعلام ، كصناعة ، وكمنظومة يفترض أنها تقدم خدمة اجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى ، وأن لها رسالة ودورا ، ومجموعة من الوظائف المفترضة ، سوف نجمل أهمها فيما يلي : أولا : على مستوى الصناعة : أصبح يشوب أداء الإعلام الخاص مجموعة من الظواهر السلبية ، التي بدأت تجعله يعيد إنتاج نفس الظواهر التلقيدية القديمة السائدة في الإعلام القومي والحزبي ، والتي أدت إلى إصابته بالجمود والتكلس، ولعل أهمها ما يلي : عدم الأخذ بمفاهيم دراسات الجدوى الاقتصادية ، عند تأسيس كثير من هذه المشروعات الإعلامية الخاصة ، صحفا وقنوات تليفزيونية ومواقع اليكترونية ، وعدم الاهتمام بدراسة أوضاع سوق المنافسة ، وتحدياتها ومتطلباتها ، ومدى قدرتها على تحمل أعباء المشروعات الجديدة من عدمه ، إبان التخطيط لها ، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تكرار الظواهر والمشروعات الإعلامية ، وتشابهها في توجهاتها ومضامينها ، وفي خدماتها ، وفي الجماهير والقطاعات المستهدفة منها ، وهو ما ترتب عليه في النهاية إضعاف بنية السوق التي تعمل في إطارها صناعة الإعلام في مصر بشكل عام ، واختلالها ، وفشل هذه السوق في الصمود أمام الأزمات الاقتصادية التي تواجهها صناعة الإعلام عامة . عدم اهتمام أصحاب هذه المشروعات وملاكها وحملة أسهمها ، باستكمال بنيتها وهياكلها التنظيمية والمؤسسية ، مثل المطابع ، وشركات تسويق الصحف ، واستوديوهات الانتاج ، ووكالات الإعلانات ، وهي الهياكل التي أصبحت تمثل ضرورة من ضرورات هذه الصناعة وتدفق استثماراتها ، وشروط استمرارها ، وقدرتها على البقاء والصمود والمنافسة ، واستمرار اعتماد هذه المشروعات في معظمها على المؤسسات المملوكة للدولة ، ولبعض شركات القطاع الخاص ، وهو ما أدى إلى وقوعها في قبضة هذه المؤسسات ، التي باتت تتحكم في أدق شئونها وأمورها ومواردها ، وهي نتيجة ترتب عليها كما هو معلوم ، تعرض كثير من هذه المؤسسات والمشروعات لسيطرة بعض المعلنين عليها ، وتحكمهم فيها على المستوى المالي . كذلك يغيب تماما عن هذه المشروعات الإعلامية فكرة ديمقراطية الإدارة ، أو الإدارة الجماعية ، من خلال وجود هياكل تنظيمية داخلية ، تتولى تسيير وإدارة كافة شئون العمل ، على المستوى الإداري والاقتصادي والمهني ، فلا يوجد بها مجالس إدارة يتم تشكيلها على النحو الصحيح ، وحتى لو وجدت ، فإنها لا تؤدي دورها المنوط بها ، وجميعها مجالس شكلية لا تقدم ولا تؤخر ، وغالبا ما يمارس رؤساء مجالس إدارات هذه المؤسسات كافة صلاحيات مجالس الإدارة ، دون حرص يذكر على تفعيل دورها واختصاصاتها، يضاف إلى ذلك أنه لا توجد بهذه المؤسسات والمشروعات جمعيات عمومية ، تضع خططها الاقتصادية والاستثمارية والتمويلية ، وتراقب موازناتها وحساباتها الختامية ، وتضع اللوائح المنظمة للعمل وغيرها ، ناهيك عن عدم وجود مجالس للتحرير ، تتولى رسم السياسات التحريرية والإعلامية للصحف والقنوات والمواقع الصادرة عن هذه المؤسسات والمشروعات ، وانفراد الملاك ورؤساء التحرير وبعض القيادات المعاونة برسم هذه السياسات في ضوء تصوراتهم الخاصة ومصالحهم ، دون أدنى اهتمام بالاستفادة من التجارب العالمية المتطورة في هذا الصدد وتطبيق مفاهيم ونظريات الفكر الإداري والتنظيمي الحديث . غلبة مفهوم " الاقطاعيات " أو " التكايا " ومفهوم " العزب " على منطق إدارة العمل في الكثير من هذه المؤسسات والمشروعات الإعلامية ، فأصبحت العلاقة التي تحكم كثير من قيادات هذه المؤسسات والمشروعات بملاكها ، أشبه بنموذج علاقة " الولي – والمحاسيب " ، دون وجود ضوابط حقيقية وضمانات تصون استقلالية هذه القيادات واستقلالية المحررين والإعلاميين ، والفصل بين الملكية والإدارة والتمويل وبين التحرير ، وتحولت كثير من هذه الوسائل والمؤسسات إلى مجرد أدوات وأذرع للدفاع عن مصالح ملاكها وتوجاتهم ، وإلى مجرد أدوات لنقد خصومهم ، وربما تشويههم واغتيالهم معنويا ، كما أصبح نمط العلاقات الذي يسود بين قيادات هذه المؤسسات ، والصحفيين والإعلاميين العاملين بها ، تحكمه معايير الشللية ، والمحسوبية ، الأمر الذي أدى مع مرور الوقت إلى إعادة انتاج نفس الظواهر السلبية التي كانت تسود منطق ، وأساليب إدارة العمل في الإعلام القومي والحزبي ، وهو ما ترتب عليه في النهاية الكثير من النتائج الخطيرة ، التي أوشكت أن تضرب هذه الظاهرة نفسها في مقتل ما لم يتم تداركها والتخلص منها . أما على مستوى تمويل كثير من هذه المشروعات واقتصادياتها ، فإن ثمة شبهات كثيرة تحيط بها ، حيث أكدت نتائج الكثير من الدراسات والبحوث الرصينة ، أن كثيرا من المؤسسات والمشروعات الإعلامية المملوكة للقطاع الخاص ، تحقق خسائر فادحة على مستوى الايرادات المتحققة من التوزيع ، ومن عائدات الإعلانات بها ، مثلها في ذلك مثل كثير من الصحف المملوكة للدولة ، وصحافة الأحزاب السياسية ، إلا أن الفارق الجوهري بين هذه وتلك ، يتمثل في أن الدولة ، التي مازالت حريصة على بقاء نمط ملكية الصحف ووسائل الإعلام القومية ، واستمرار سيطرتها عليها ، تتكفل بدعم هذه الوسائل وتقديم كافة المساعدات المالية لها ، وكذلك الأحزاب السياسية وإن كان بدرجات متدنية و متفاوتة ، لاعتبارات معروفة ومفهومة تماما ، في حين أن بقاء و استمرار الكثيرمن الصحف ، ووسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص ، والتي تدار بمنطق تجاري واستثماري بحت ، رغم تحقيقها لهذه الخسائر ، وعدم قدرتها على الصمود في أسواق المنافسة السائدة ، يثير إشكالية وشبهات كثيرة في غاية الخطورة ، مفادها أن كثيرا من هذه المشروعات ، صحفا كانت أو قنوات ، تتلقى تمويلا من أنظمة سياسية ، ومن رجال أعمال ، ومؤسسات وأجهزة خارجية ، وهي شبهات ومقولات تتردد كثيرا في الأوساط السياسية والأكاديمية ، وبين أبناء الجماعة الصحفية والإعلامية أنفسهم ، الأمر الذي يثير تساؤلا في غاية الخطورة ومفاده : لصالح من تعمل هذه الصحف والمؤسسات الإعلامية ، ومن هم ملاكها الحقيقيون ؟ . كما يبرز في إطار ظاهرة الإعلام الخاص الكثير من الظواهر السلبية والخطيرة الأخرى ، لعل أهمها على الإطلاق ظاهرة زيادة التوجه نحو تركيز الملكية والاحتكار ، حيث بدأ يتردد في الأوساط السياسية والإعلامية ، أن ثمة عدد قليل ومحدود من رجال الأعمال باتوا قاب قوسين أو أدنى ، من السيطرة على ملكية المؤسسات والمشروعات الإعلامية الخاصة القائمة ، وبسط نفوذهم الاحتكاري عليها ، بل إن ثمة مقولات مشابهة كثيرة ، باتت تترد حول نواياهم في بسط هذا النفوذ ، إلى وسائل الإعلام القومية المملوكة للدولة ، دون سقف طموح محدد ، رغبة منهم في السيطرة على السوق ، والسيطرة على وسائل الإعلام ، وإداراتها وتوجيهها بما يخدم مصالحهم وتوجهاتهم واستثماراتهم ، وهي ظاهرة خطيرة تعاني منها المجتمعات الغربية منذ منتصف الستينيات وحتى الآن ، وأصبحت تجأر بالشكوى الآن من نتائجها وتداعياتها ، التي يتمثل أهمها في تقليص درجة التعددية والتنوع التي يتمتع بها الإعلام ، وسيطرة الاحتكارات عليه ، وهو ما يستهدف البعض للأسف الشديد استنساخه وإعادة انتاجه في مصر ، نتيجة عدم وجود قوانين تحد من هذه الممارسات الاحتكارية ، أو ضوابط تنظم سوق المنافسة في إطار صناعة الإعلام . إعلام منزوع الضمير الوطني ثانيا : على مستوى رسالة الإعلام الخاص ووظائفه وأدواره : فكما سبق الإشارة في بداية هذا المقال ، فإننا لا يمكننا أن ننكر أهمية هذا الدور ، وحجم التأثير الذي لعبه الإعلام الخاص في المجتمع المصري ، بل إننا نفارق الحقيقة إذا ما لم نعترف بأن هذا الإعلام قد لعب مجموعة من الأدوار المهمة ، في كشف قضايا الفساد ، وفي كشف انحرافات المسئولين ، وممارسة الدور الرقابي والنقدي على هيئات المجتمع ومؤسسات الدولة ، وصلت حد نقد رئيس الدولة وأسرته ، وفضح أجهزة الأمن وانتهكاتها ، وكذلك فتح الكثير من الملفات الشائكة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، بدءا من قضايا المرأة وحقوقها ، وقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية ، وقضايا الفقراء والمهمشين ، وليس انتهاء بالتعذيب في المعتقلات ، وتضخم ظاهرة الأمن السياسي في مصر ، وهي أدوار لا يمكن لباحث أو ناقد منصف أن يتجاهلها ، أو يتجاوزها ، عند تحليل هذه الظاهرة ، بما لها وما عليها ، إلا أنه بالرغم من ذلك ، فإننا يمكننا القول - وبكل ثقة - ، إنه إن كانت بدايات عودة ظاهرة الإعلام الخاص في مصر مع منتصف التسعينيات ، تحمل في باطنها ما ينبيء بأن ثمة تطورا حقيقيا يعكسه أداء هذا الإعلام ، وأنه يمثل إضافة حقيقية لمنظومة الإعلام المصري الوطني ، وأنه يعكس ثمة انحيازا واضحا ، تحمله رسائله وخطاباته لصالح الجماهير ، من القراء والمشاهدين ، في مواجهة السلطة ، ودوائر النفوذ وأصحاب المصالح ، فإن النهايات أصبحت لا تنبيء بمثل هذه الانطباعات والتصورات الإيجابية ، التي كانت تمثل قناعة حقيقية لدى كثير من الباحثين والإعلاميين والنقاد ، وجمهور وسائل الإعلام نفسه ، الذين أعطوا لهذه الظاهرة حقها ، ولهذا الإعلام فرصته الكاملة ، ولم ينالهم منه خيرا في نهاية المطاف . نعم كانت البدايات مبشرة ، ومازالت قلة من وسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص يعول عليها ، وتؤدي رسالتها بنزاهة واستقلالية ، ومن منظور وطني إلى حد كبير ، إلا أن اللافت في الأمر ، والمحزن في نفس الوقت ، أن تحولت هذه الظاهرة مع مرور الوقت ، وخلال فترة قصيرة نسبيا ، من كونها إضافة حقيقية لمنظومة الإعلام المصري ، ومن كونها إحدى مرتكزات القوة لهذه المنظومة ، إلى ما يمكن اعتباره " أحد أهم معاول الهدم " التي استخدمت لضرب الإعلام المصري في مقتل ، وأحد أهم أدوات إثارة الفوضى في المجتمع وفي السوق الإعلامية على حد سواء . وفي الحقيقة فإننا هنا لسنا بصدد محاكمة الإعلام الخاص أو التقليل من شأنه وتأثيره ، وأهميته ودوه في خدمة قضايا المجتمع ، بل على العكس من ذلك تماما ؛ فلأننا ندرك أهمية هذا الإعلام ، وأهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه في المجتمع ، وخطورة تأثيره ، وكذلك لأننا ندرك حجم نفوذه ، ومكانته التي حققها في سوق المنافسة باطراد مستمر ، في غيبة من الإعلام القومي والحزبي ، فإنني أزعم أن ما أطرحه من رؤية نقدية حول أوضاع هذا الإعلام ، هي مسألة تستهدف في المقام الأول تصحيح مساره ، ودق ناقوس الخطر أمام القائمين على شئونه وملاكه ، فربما يمكن أن نستفيد من هذه الفرصة ، في إعادة تقدير الموقف ، وفي تقييم هذه التجربة وتقويمها ، بغية الحفاظ عليها ، واسترداد عافيتها وسلامة أدائها . فالمتابع للإعلام الخاص خلال السنوات الأخيرة ، خاصة السنوات التي أعقبت ثورة يناير 2011 ، وما قبلها في الحقيقة ، وحتى الآن ، لا شك سوف يصيبه الحزن ، بل ربما الغثيان والغضب ، جراء الكثير من الظواهر والممارسات السلبية ، التي باتت منهجا يحكم أداء هذا الإعلام ورسالته ، ولعل من أهم هذه الظواهر التي نشير إليها ، ما يلي : غياب الرؤية التي تحكم أداء وسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص ؛ فمعظم الوسائل الإعلامية ليست لديها رؤية واضحة ورسالة محددة تستهدف تحقيقها ، وتنعكس في سياساتها الإعلامية والتحريرية ، وفي مضمون رسائلها وبرامجها وموادها الإعلامية ، وهو الأمر الذي يجعل المتابع لهذه الوسائل لا يستطيع تحديد توجهاتها وانحيازاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ولا توجهات ملاكها على وجه الدقة ، كما أن الصحفيين و الإعلاميين والعاملين في هذه القنوات يجدون صعوبة كبيرة في فهم سياسات هذه الوسائل وأولوياتها وأجنداتها ، بما يؤدي في النهاية إلى اضطراب الممارسة الإعلامية لمعظم الصحف والقنوات المملوكة للقطاع الخاص . غياب المعايير والقيم المهنية الحاكمة لأداء هذه الوسائل ، وغلبة الطابع العشوائي والارتجالي على كثير من ممارساتها ، وغياب المعايير الأخلاقية التي تضبط الأداء وترشده ، حيث تقع معظم هذه الوسائل في أخطاء قانونية فادحة ، وترتكب تجاوزات أخلاقية خطيرة ، في ضوء سباقها المحموم لتحقيق مكانة سوقية ، ونتيجة لرغبتها المتزايدة في تعظيم الايرادات وتحقيق الأرباح ، دون اهتمام يذكر بمسئوليتها الاجتماعية تجاه القراء وقضايا المجتمع ، وهو الأمر الذي أدى إلى عزوف الجمهور عنها ، وإفتقادها إلى المصداقية . سيطرة المعلنين ورجال الأعمال ، وجهات التمويل الداخلية والخارجية على عملية صناعة القرار الإعلامي والتحريري ، وتدخلها في رسم سياسات هذه الوسائل وتحديد توجهاتها ، بما لا يتعارض مع مصالحها ، الأمر الذي أفقد كثيرا من الصحف والقنوات والمواقع الصادرة عن هذا النمط من الشركات خاصة استقلاليتها ، وقدرتها على التعبير عن هموم الجماهير وتطلعاتها واحتياجاتها الحقيقية ، وأضر بمكانة هذه الصحف والوسائل نفسها . كما أن الآفة الأخطر التي أصابت كثيرا من هذه الوسائل الإعلامية ؛ صحفا وقنوات ومواقع ، أنها أصبحت مع مرور الوقت ، ونتيجة لتدخلات جهات التمويل الداخلية والخارجية ، وأجندة أولوياتها ، بلا هوية واضحة ، بل منزوعة الضمير الوطني ، إذا جاز هذا التعبير، فهي تعمل وفقا لأهواء مموليها وملاكها ، ووفقا لأجندة مصالحهم الخاصة ، دون اعتبارات لأولويات المصلحة الوطنية ، ومصالح الجماهير وأولوياتها ، وهو ما أسفر في النهاية عن تزايد جحم ظاهرة اختراق الصحف ووسائل الإعلام الخاصة ، وتشتيت ولاءها ، للدرجة التي جعلت كثيرا من النقاد يعتقد أن كثيرا من هذه الوسائل الإعلامية مجرد واجهات لأنظمة وجهات خارجية ، أو أنها مجرد مشروعات لغسيل الأموال ليس إلا . يضاف إلى ما سبق أن كثيرا من هذه الوسائل الإعلامية – نتيجة لعدم التزامها بالمعايير المهنية والأخلاقية في ممارساتها – قد أسهمت بدرجة ملحوظة في شيوع كثير من مظاهر الفوضى في المجتمع ، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، حيث أصبحت كثير من هذه القنوات والصحف والمواقع الخاصة تتهم بأنها كانت السبب الرئيس في شيوع ظاهرة الاستقطاب السياسي والاجتماعي في مصر وإذكائها ، وأنها كانت من الأساب الرئيسيىة في إثارة مظاهر الفتن والاحتقان بين الفئات والقوى السياسية والاجتماعية المختلفة ، على عكس الرسالة التي يفترض أن تؤديها هذه القنوات والوسائل . وبالرغم من كل هذا وذاك ، فإنني في النهاية أؤكد – كما سبق التنويه والتأكيد – على أن ظاهرة الإعلام الخاص وإن كانت ظاهرة ، قد أصبح يشوبها الكثير من الشوائب ، ويثار حولها الكثير من الجدل والشبهات ، إلا أنها في رأيي الخاص مازالت وستظل ظاهرة تحتاج إلى الدراسة ، وإلى التقويم ، وإلى الحفاظ عليها ، ودعم بقائها واستمراريتها ، شريطة أن تبادر هذه المنظومة نفسها بمراجعة تجربتها ، وتقويمها ، ومحاولة الاستفادة من دروس الماضي والحاضر ، في تطوير نفسها ، وفي الحفاظ على بقائها ، وذلك من اتخاذ الاجراءات والتدابير ، التي تمكنها من إعادة هيكلة نفسها ، وتطوير سياساتها ، وفض ذلك الاشتباك بينها وبين ملاكها ومموليها ، ومن ارتباطها بأية دوائر داخلية أو خارجية ، وتقديم اعتبارات المصلحة الوطنية واعتبارات خدمة مصالح الجماهير وقضايا المجتمع على أية أولويات واعتبارات أخرى ، يضاف إلى ذلك ضرورة التزامها وغيرها من وسائل الإعلام الأخرى سواء المملوكة للدولة أو للأحزاب السياسية بقيم ومعايير وأخلاقيات الممارسة المهنية ، إذا أراد القائمون على شئون صناعة الإعلام ، لهذا الإعلام أن يقيض له الصمود والبقاء والقدرة على الاستمرارية ، في وقت أصبحت الانترنت والإعلام البديل على شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث العامة المجانية تهديدا حقيقيا ، وبديلا منافسا قويا وفعليا لهذه الصناعة .