"إننى لا أسلك الطرق المطروقة ولا أشرب من الحوض المباح وأعاف ما تبتذله الدهماء".. فى أربعينيته لايزال العميد محل جدل شديد، رحل العميد جسدا ولكن أفكاره لاتزال حية تسعى بيننا، تلقف من دونها، بين مؤيد ومعارض تحل الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين بأفكار طه حسين، ويرون فى أعماله رافدا يتزود من مياهه السائرون فى صحراء العطش الفكرى، سعيا نحو مزيد من النهضة والتقدم، نموذجا للمفكر الموسوعى الذى يؤمن بأن له دورا اجتماعيا يتجاوز حدود المنهج الدراسى وأسوار الجامعة، فهو الذى أطلق صيحة «التعليم كالماء والهواء».. وعلى النقيض نجد من يتهمه بأنه سعى إلى زرع الأساطير والشبهات فى قلب السيرة النبوية المطهرة، واتهمه المحافظون بالزندقة وتشويه الإسلام. لكن طه حسين نفسه يؤكد «إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين، إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل»، ويتساءل: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟! انتقل طه حسين من بيئة التسليم فى مصر إلى بيئة التشكك فى أوروبا، وأعجب بفلسفة ديكارت الشك واليقين والفرض وتحكيم العقل فى كل شىء، وبدأ رحلته فى التفكير، وعندما أصدر كتابه «فى الشعر الجاهلى» أحدث ضجة هائلة، ومازال حتى الآن يواجه المعارضين له، بالرغم من أن المؤلف أوضح من البداية منهجه الذى سلكه قائلا: «سأسلك فى هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع فى الأدب هذا المنهج الفلسفى الذى استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء فى أول هذا العصر الحديث. والناس يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هى أن يتجرد الباحث من كل شىء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مما قيل فيه خلوا تاما. والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذى سخط عليه أنصار القديم فى الدين والفلسفة، يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرا». أدى به هذا المنهج إلى الشك فى وجود الشعر الجاهلى أصلا، يقول: «إننى شككت فى قيمة الأدب الجاهلى وألححت فى الشك، أو قل ألح على الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بى هذا كله إلى شىء إلا يكن يقينا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية فى شىء، وإنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك فى أن ما بقى من الأدب الجاهلى الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شىء. ولا ينبغى الاعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلى». يمضى طه حسين بمنهج الشك إلى أبعد من ذلك، حيث يخضع القصص القرآنى له كذلك، فيقول عن هجرة إبراهيم وإسماعيل: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى»! وصل الأمر برفض الكتاب إلى قيام مظاهرات توجهت للبرلمان، فخرج سعد زغلول ليقول: «إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر فى هذه الأمة المتمسكة بدينها. هبوا أن رجلاً مجنوناً يهزى فى الطريق فهل يضير العقلاء شىء من ذلك؟ إن هذا الدين متين، وليس الذى شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة، فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟».