يقول تبارك وتعالى في كتابة الكريم: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118 إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 119) (هود)، وتعج الساحة المصرية الآن بالخلاف الشديد في الآراء، وإتاحة الفرصة السانحة للشيطان لفرض سيطرته على الميدان، وتفريق جموع المصرين كما فعل النظام السابق حتى تذهب قوتهم ووحدتهم، ويعاد بناء النظام القديم مرة أخرى، بعد أن منَّ الله علينا بالثورة المجيدة التي وحَّدت القلوب والعقول، وانصهر المصريون في بوتقة واحدة حرقت الفساد، وأسقطت رأس النظام، وأنارت البلاد بالتغير، وبعثت الأمل من جديد في فجر مشرق يحقق الخير لمصرنا الحبيب. ولكن المحزن أن يدمر الاختلاف الائتلاف، وأن يؤدي التنازع إلى الفشل، وهذا ما حذرنا منه الله تبارك وتعالى في قوله الكريم: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ 46) (الأنفال)، وأحب أن أذكر بأعظم نموذج لتطبيق الشورى في التاريخ؛ كي نتعلم منه الدروس والعبر، ونخرج بتوصيات عمليه لإنقاذ سفينة الوطن من أمواج الفرقة والفتن والأهواء. تعالوا أيها الأحباب إلى سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة أُحد، فبعد أن جمع صلى الله عليه وسلم المعلومات الكاملة عن جيش قريش جمع أصحابه وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأيه صلى الله عليه وسلم البقاء في المدينة وقال: "إنا في جنه حصينة" إلا أن رجالاً من المسلمين ممن فاتهم بدر قالوا: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، وكان هذا هو رأي الأغلبية وخاصة الشباب، وقال ابن إسحاق: فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مِن أَمْرِهم حب لقاء القوم حتى دخل صلى الله عليه وسلم بيته فلبس لأمته فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم: أمرنا لأمرك تبع، فأتى حمزة فقال له: يا نبي الله إن القوم تلاوموا فقالوا: أمرنا لأمرك تبع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل". وكان لكل فريق حيثياته في الرأي، ولكن الممارسة الحقيقية الناجحة للشورى أخذت برأي الأغلبية؛ حتى وإن كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقلية وهو المعصوم الذي يوحى إليه. ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى ولو خالفت رأيه، فهو يشاورهم فيما لا نص فيه تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة، ومعالجة مشاكل الأمة، ولم يحدث أن لام الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا لأنه أخطأ في اجتهاده، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام، ولا بد أن يطبق النص القرآني (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 159) (آل عمران) لتعتاد الأمة على ممارسة الشورى، وهنا يظهر الوعي السياسي عند الصحابة، فبالرغم من أن لهم حرية إبداء الرأي إلا أنه ليس لهم فرضه على القائد، وعندما علموا أنهم ألحوا في الخروج عادوا فاعتذروا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم علمهم درسًا آخر من صفات القيادة الناجحة، وهو عدم التردد بعد المناقشة، واتخاذ القرار والعزم على التنفيذ، فإن ذلك يزعزع الثقة، ويغرس الفوضى بين الأتباع، ويُحدث التفرق المذموم إذا لم تنضبط الجماعة بإطار الشورى الحاكم. وحدث ما حدث في غزوة أحد من انكسار بعد انتصار، ومن قُرح وجرح وهزيمة، ولكن المعصوم صلى الله عليه وسلم لم يوجه اللوم لمن اتخذوا القرار بالخروج، ولم يتراجع في مبدأ الشورى، ووضع للأمة نبراسًا منيرًا تهتدي به في لحظات الاختلاف المذموم الذي يؤدي إلى الخلاف والشقاق والفرقة والفوضى، وها نحن نعيش الآن في مصر ونرى تراشق واتهامات من البعض الذين كانوا يدعون الديمقراطية، فلِمَ اختار الشعب بأغلبية غيرهم وجاء بمن يتوسم فيهم الخير؟. انقلب هؤلاء النفر على حكم الشعب ومجلسه وأخذوا يبارزون الجميع في كل وسائل الإعلام بتشويه غيرهم والكذب عليهم، وتناسوا ما نادوا به من قبل بضرورة احترم الأغلبية، وهذه هي حقيقة الديمقراطية التي بها يتغنون ولكن عند الممارسة يتناسون طالما لم تأتِ على هواهم. وأحب أن أقول لكل مخلص لهذه البلاد لنتعاون على كلمة سواء، ولنجتمع على جزء من الصواب خير من أن نتفرق على الأصوب، وأذكر بالقاعدة الفقهية "لا حرج في المختلف فيه" ولنحسن الظن ببعضنا، ولنرتفع عن أهواء النفس، فالوطن يمر بمرحلة دقيقه، والمتربصون كثير ينفخون في الرماد بدخان الفرقة لتصير نارًا تحرق الأخضر واليابس، ويصنعون الأزمات الاقتصادية والمعارك الفكرية لنتفرق، ويرفعون أقوال التخوين والتشكيك، ويثيرون الفتن ما ظهر منها وما بطن حتى تعود العجلة إلى الوراء، فهل نفيق ونترك التعصب للآراء والأشخاص والأحزاب والجماعات ونرفع مصلحة الوطن العليا فوق أي مصلحة صغيرة ضيقة؟ وهل سنتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعض فيما اختلفنا فيه؟. أتمنى ذلك، وأدعو إليه وأناشد الجميع أن ينحوا الخلافات في الرأي في أي مستوى لاتخاذ القرار، وأن يمارسوا الشورى وضوابطها التي تعلمناها من الكتاب والسنة، ولنرفع جميعًا شعار الائتلاف رغم الخلاف. نقلا عن إخوان أون لاين