يتمتع الإخوان بطراز رفيع من الذكاء السياسى الخارق، هو من ذلك النوع الذى يفترض صاحبه أن الآخرين جميعًا من الأغبياء، أن تعتبر نفسك الذكى الوحيد، هى درجة عظمى وخطيرة من العبقرية. خذ مثلا قرار الرئيس مرسى القنبلة بعودة مجلس الشعب للانعقاد، رغم حكم المحكمة الدستورية باعتبار المجلس منعدمًا، ظاهر القرار هو الانتصار للشعب وللثورة، لأن الرئيس قدّم نفسه من خلاله، باعتباره الرجل الذى يدافع عن مجلس منتخب. لكن القرار لم يرد الصفعة للمجلس العسكرى، ولكنه ضرب عرض الحائط بحكم المحكمة العليا، التى كان مرسى يحلف اليمين أمامها منذ أيام قليلة، واستقطع عدة دقائق من وقته الثمين، للإشادة برجال القضاء، حماة الدستور والقانون!. القرار الفضيحة الذى وصفه الإخوان بالشجاع، غاب عنه أمران أساسيان: القانون والسياسة، وليس لهذا الغياب أى علاقة بالشجاعة، لأنه أدخل الوطن فى متاهة جديدة، ودمر فكرة الاصطفاف الوطنى قبل أن تبرد نارها، عدنا من جديد إلى الانقسام بين مؤيد ومعارض، فقيه دستورى أمام فقيه دستورى، وحُجة أمام حُجة. كان سيصبح هناك منطق، لو أن مرسى رفض أن يحلف اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، لأنه أصلا ضد الإعلان الدستورى «الكمالة»، ولكن الرئيس الشجاع رضخ لفكرة أن يحلف اليمين أمام «الدستورية العليا» حتى يصبح رئيسا، ولكى يُصدر بعد أيام قليلة قرارًا يمثل انقلابًا صريحًا على قرار أصدرته المحكمة، بل وقامت بتفسيره. الإخوان المتذاكون قرروا أن يلتفّوا حول الحكم الصريح الذى لم يعجبهم، الحقيقة أننى أيضا لم أسترح سياسيًّا لحل البرلمان فى هذا الوقت العصيب، رغم أنه مجلس لم يفد الثورة ولم يعبّر عنها، كانت المشكلة بالنسبة إلىَّ أن الحل ترك فراغا انتهزه المجلس العسكرى بإعلان دستورى رفضتُه أيضا، ولكن كل ذلك كوم، وأن تتحايل وتلتف على التنفيذ كوم آخر، لأن ذلك ببساطة مقدمة لفتح أبواب جهنم، وقد كان. سمعت القيادى الإخوانى محمود غزلان يقول فجأة إن أعضاء «الدستورية العليا» قام بتعيينهم حسنى مبارك. طيب إذا كان ذلك كذلك، لماذا رضخ مرسى وحلف اليمين أمامهم؟ أليس رئيس نفس المحكمة هو الذى أعلن فوز مرسى بمنصبه كرئيس للجمهورية؟ كان القضاة من الحصافة، بحيث أصروا على أن يكون حلف اليمين، وكلمة مرسى على الفضائيات، كانوا يدركون أنها تمثيلية سرعان ما تنتهى لتظهر المواقف الحقيقية. كان أساس لعبة الإخوان، من خلال قرار الرئيس مرسى، هو الخلط بين عدة أمور لتصبح الصورة ضبابية: الصراع بين العسكر والإخوان على السلطة بعد زواج وشهر عسل طويل على حساب الثورة والثوار، القفز على حكم المحكمة الدستورية بدعوى انتزاع سلطة التشريع، والتمكين للإخوان بإعادة سيطرتهم على السلطة التشريعية والتنفيذية معا. حزمة متكاملة لتمرير عدة أمور معا، فإذا رفضتَ قرار مرسى باعتباره ضربا للحائط بدولة القانون والدستور، قال لك الإخوان إنهم كانوا يريدون استعادة مجلس منتخب، ويريدون تقليم أظافر المجلس العسكرى. المجلس كان منتخبًا حقًا ولكن بقانون غير دستورى اشترك الإخوان وكل القوى السياسية والمجلس العسكرى فى مسؤولية تمريره، كلنا ضد سيطرة المجلس العسكرى، التى مكّن لها الإخوان قديمًا عندما وافقت قراراته خطتهم، ولكن المشكلة تحوّلت بعد القرار إلى حرب علنية بين السلطة التنفيذية والقضائية. يعرف مرسى، أو قد لا يعرف، أن تحدى سلطة المجلس العسكرى لا تكون بأن ترفض تنفيذ حكم قضائى لأعلى محكمة مصرية مهما كان رأيك فيه، ويعرف مرسى، أو قد لا يعرف، أن الضغط على المجلس يكون من خلال اصطفاف وطنى شامل، قوى ومؤثر، لا عن طريق قرار يقضى على الوحدة والتحالف السياسى. يدرك رئيس الجمهورية أنه إذا كانت تكلفة عودة البرلمان هى الطعن فى مصداقية المحكمة الدستورية، وفى تنفيذ قراراتها، فإن هذا معناه أنك تبنى مؤسسة لتهدم أخرى، ومع كل ذلك وافق على القرار الخطير. أرجو أن لا يفهم من كلامى أن النظام القضائى المصرى كامل الأوصاف، وأن كل من يعملون به من الملائكة، ولكن الفارق كبير بين أن تعمل على تدعيم استقلال القضاء أو تطهيره، وبين أن تهدمه هدمًا بأن تجعل أحكامه حبرًا على ورق، أن تقبل هذا الحكم، لأنه على مزاجك سياسيًّا، ثم تلتفّ حول الحكم الآخر، لأنه ليس على هواك، أن تمدح قضاة المحكمة بالأمس، وتهاجمهم اليوم، لأنك تريد أن تكسب نقطة فى معركة طويلة مع المجلس العسكرى، بعد أن عشت فى أحضانهم زمنًا معتبرًا، أن تستعيد للبرلمان سلطة التشريع ولكن على جثة أحكام القضاء، وما أدراك ما أحكام القضاء. حكم خطير كبطلان حل مجلس الشعب، ما كان يجب أن يصبح موضوعًا لتصفية الحسابات بين المجلس العسكرى والإخوان، لا بد من التنفيذ، أما التحايل أو اللف والدوران، فلم يكن له إلا معنى واحد هو أن المسؤول غير مسؤول، والراعى ليس براعٍ، وتقدير الموقف منعدم، والوطن تنتظره مصائب حقيقية، لو كانت العينة القادمة على نفس المنوال. تصدر أحكام «الدستورية العليا» لكى تُحترم، أما أن تصدر فتتحول إلى موضوع لندوات وسجالات الردح الفضائى فى برامج التوك شو، أو لكى تعطى مساحة لظهور أحفاد السفسطائيين الذين كانوا يدافعون عن الرأى ونقيضه فى نفس الوقت، فهذا معناه شىء واحد، هو أن تصبح الأحكام القضائية كرة نلهو بها. أنا مضطر أيضا إلى أن أسجّل السؤال المرير الذى ردده الكثيرون، والوطن على حافة الخطر والانفجار فى أى لحظة: هل يُعقل أن يكون حسنى مبارك فى عز سطوته وغباوته أكثر حكمة من الإخوان فى تنفيذ حكم المحكمة الدستورية بشأن بطلان المجلس فى مناسبتين معروفتين؟. زاد الأمر خطورة أن الرئيس مرسى رشّحه حزب الحرية والعدالة، الذى يعتبرونه الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، وهو تنظيم ملتبس لم تحدد أوضاعه القانونية ولم تقنن حتى اليوم، انتظارًا، كما يقولون، لصدور قانون الجمعيات الأهلية الجديد. الشاهد هنا أن الرئيس القادم من كيان خارج دائرة القانون، كان يحتاج إلى أن يبذل جهدًا «مضاعفًا» لكى يطمئن الناس إلى احترام القانون، لا أن يتجاهل تنفيذ الأحكام، خصوصًا أن مرسى جعل البحر طحينة للجميع، وقدّم نفسه على أنه نصير العدل والقانون والدولة المدنية. كتبتُ فى هذا المكان عن ضرورة مد الجسور وتصليح ما أفسده الإخوان، فهل كانت هذه الأزمة من بشائر النهضة، وقواعد الاصطفاف الذى صدعتنا بها خطابات الرئيس مرسى؟ وهل كان ذلك أول الغيث الذى تنهمر بعده تفسيرات ترزية الإخوان لقبول أو رفض الأحكام القضائية حسب الطلب؟. رفضُنا للمجلس العسكرى لا يعنى أن نقول آمين لألاعيب الإخوان.. نستطيع الفرز جيدًا، فلا تتعبوا أنفسكم فى السفسطة الفارغة، قالت «الدستورية»: المجلس باطل، ويستوجب الحل، نقطة ومن أول السطر. أثبتت قنبلة مرسى فى الأيام الماضية أن الإخوان، كما كنا نكرر دائما، ليسوا أقل خطورة على الدولة المدنية من المجلس العسكرى، بل إن القرار فتح الباب لكى يقوم كل إنسان بتأويل أى حكم قضائى على مزاجه، ومن يدرى فقد يرفض مبارك أن يستكمل مدة سجنه، ليس اعتراضًا على حكم المحكمة لا سمح الله، ولكن «مكايدة» فى المجلس العسكرى. المشكلة الأخطر فى اهتزاز الثقة فى الرئيس، رغم أنه ما زال فى أول أيام حكمه، سمعت كثيرين يرددون هذا الرأى، بدا الرئيس بالنسبة إليهم مثل الرجل الذى أراد توسعة شقته، فاختار أن يهدم عمودًا جعل المنزل كله معرّضًا للانهيار. أحسب أن الذى «لاص» أمام أزمة تسبب فيها، وأدت إلى خلق أزمة مرور مع السلطة القضائية، يجعلنا نشك كثيرًا فى أن ينجح فى حل أزمة المرور فى شوارع العاصمة. لا يعنينى مَن أيد ومَن عارض، ولو كانت أغلبية المجلس ليبرالية أو يسارية ما تغيّر رأيى أبدا، إنها فى رأيى أزمة كاشفة جعلتنا نعرف الكثير من الوجوه، فضحت ليبراليين يحرِّضون على حكم قضائى، وترزية قوانين لبسوا الذقن والجلباب، وثورجية لا يفرِّقون بين تحجيم سلطات المجلس العسكرى، وبين هدم القضاء، وكتّاب لا يعرفون الفرق بين التطهير والتدمير. ثم إننا تأكدنا من جديد أن الإخوان متخبطون مع وجود المرشد، أو ربما بسبب وجوده، وأنهم حتى أقل من أن نصفهم بأنهم «أهل سياسة». نقلا عن التحرير