فى مثل هذه الأيام من شهر مارس 1964رحل الكاتب والمفكر الكبير عباس محمود العقاد عن عالمنا.. يوم رحل أحسست بالحزن الشديد، ليس فقط لأنى كنت واحدا من قرائه المعجبين بكتاباته، ولكن لأسباب أخرى كثيرة بعضها شخصى وبعضها موضوعى.. أولها أنه قد سبق له أن أشاد بى يوما فى إحدى يومياته التى كان يكتبها بجريدة الأخبار، فعندما كنت تلميذا فى مدرسة البدارى الثانوية أرسلت إليه سؤالا ذا طابع فلسفى، وكم كانت دهشتى عندما نشرالعقاد السؤال مستهلا حديثه قبل أن يبدأ فى الإجابة بإغداق الثناء على تلميذ فى مثل هذه المرحلة من العمر تشغله موضوعات من هذا القبيل (بوسع القارئ العزيز أن يجدالسؤال والإجابة فى الجزء الأول من يوميات العقاد التى نشرتها دار المعارف بعد وفاته)، وأما ثانى الأسباب التى جعلتنى أحس بالحزن على وفاته، فهو أننى عندما التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1962 وأصبحت من سكان القاهرة لأول مرة فى حياتى حرصت على أن أنتهز هذه الفرصة وأتردد على مختلف المنتديات الثقافية التى كانت تحفل بها القاهرة فى ذلك الوقت، وكان صالون العقاد الذى كان يعقده فى منزله فى مصر الجديدة صباح كل يوم جمعة فى طليعة تلك المنتديات، وهكذا أصبحت واحدا من رواد ندوة العقاد، بل إننى أزعم أو هذا ما كان يخيل إلى على الأقل أننى أصبحت واحدا من المقربين إليه بفضل ما كنت أبديه من ملاحظات على كتاباته وعلى غير كتاباته مما أتيح لى أن أطلع عليه فى تلك الفترة من حياتى، ومما قوى هذا الاعتقاد لدى أنه كان يسأل أحيانا عن سبب تغيبى عندما تضطرنى ظروف معينة إلى التغيب عن حضور ندوة معينة، والواقع أن حضورى ندوات العقاد قدأتاح لى فى الوقت نفسه أن أتعرف على عدد من الشخصيات المهتمة بالفكر والثقافة وأن تنعقد بينى وبين عدد منهم علاقات من المودة التى تجعلنى أشعر بالألفة وأنا بينهم، ومن ثم فقد كان رحيله سببا فى انفراط عقد كان ما يجمعه أصلا وجود العقاد، أو بالأحرى صالونه الثقافى،تلك كانت هى الأسباب التى يمكن وصفها بأنها أسباب شخصية للحزن على رحيل العقاد، أما الأسباب الموضوعية فهى أكثر من أن تحصى، ذلك أن العقاد شخصية موسوعية مذهلة يكتب فى السياسة والتاريخ والفلسفة والنقد الأدبى والدراسات الإسلامية والسير الذاتية، وهو فى الكثير من هذه المجالات لا يتبع خطى من سبقوه بل يقوم بنقد مناهجهم وتجديدها، ولعل المثل الأجلى على ذلك هو نقده لشعر أحمد شوقى الذى تفتقر قصائده من وجهة نظر العقاد إلى العمق الفكرى من ناحية وإلى الوحدة العضوية من ناحية أخرى وهو ما ضمنه كتاب: «الديوان» الذى شاركه فى تأليفه صديقه المؤمن بنفس أفكاره فى نقد الشعر وأعنى به إبراهيم عبدالقادر المازنى، والواقع أن العقاد لم يكن مجددا لنقد الشعر فحسب، بل إنه كان هو ذاته شاعرا مجيدا، وهذا هو الجانب الذى ظلم فيه العقاد كثيرا ولم يلق فيه ما يستحقه من الإشادة، وربما كان المسئول عن هذا الظلم هو تعدد الجوانب الأخرى للعقاد إلى الحد الذى طغت فيه على الاهتمام بقيمته كشاعر مجيد، وإذا كان لى أن أقدم نماذج من شعره فإننى سأقدم هذه الأبيات المختارة من قصيدة القمة الهامدة التى يقول فيها: إذا ما ارتقيتَ رفيعَ الذُّرَى فإياك والقمة الباردة هنالك لا الشمس دوارة ولا الأرض ناقصة زائدة وتعلو وتهبط جدرانُها وأساس جدرانها قاعدة وإذا كان لى أن أستشهد بقصيدة أخرى فإننى أستشهد بالقصيدة الآتية وهى من روائع شعر العقاد: إذا شيعونى يوم تُقضى منيتى وقالوا أراح الله ذاك المُعذَّبا فلا تحملونى صامتين إلى الثرى فإنى أخاف اللحد أن يتهيّبا وغنوا فإن الموت كأسٌ شهيةٌ ومازال يحلو أن يغنّى ويُشربا وما النعش إلا المهد مهد بنى الردى فلا تُحزنوا فيه الوليد المغيبا ولا تذكرونى بالبكاء وإنما أعيدوا على سمعى القصيد فأطربا، غير أن المأثرة الكبرى للعقاد هى دفاعه عن الحرية والديمقراطية، سواء على المستوى الداخلى أو الخارجى، فعلى المستوى السياسة الدولية شن هجوما ضاريا على الأنظمة الشمولية وبوجه خاص النازية والشيوعية، وعلى المستوى الداخلى دافع عندما كان نائبا بالبرلمان عن المبدأ القائل بأن الأمة مصدر السلطات، وعندما اعترض الملك فؤاد على عبارتين وردتا فى دستور 1923 وطلب إسقاطهما وكانت أولاهما تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان، ارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان قائلًا: إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس فى البلاد يخون الدستور، وهو ماجعله يقدم إلى المحاكمة بتهمة العيب فى الذات الملكية، ويقضى عليه بالسجن تسعة أشهر، قضاها بالفعل وخرج منها لكى ينشد قصيدة يقول فيها: قضيت جنين السجن تسعة أشهر وها أنا فى ساحة الخلد أولد عداتى وصحبى لااختلاف عليهما سيعهدنى كل كما كان يعهد!