جاء الهجوم الإرهابي على متحف باردو في العاصمة التونسية، ليضع السلطات وجهاً لوجه مع تحديات كبرى وصفها المراقبون ب"الخطيرة" واعتبرها المسؤولون السياسيون "بداية حرب طويلة المدى مع التهديدات الإرهابية المتمددة عبر خريطة إقليمية ودولية". وعلى الرغم من أن الجماعات المسلحة سبق لها أن اخترقت العاصمة في فبراير ثم يوليو 2013 باغتيالها قياديين معارضين هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي ونفذت عمليات ضد قوات الأمن والجيش في المرتفعات الجبلية الغربية المتاخمة للحدود مع الجزائر، إلا أن حادثة المتحف تعتبر أخطر عمل إرهابي ضرب تونس ليس فقط من خلال عدد الضحايا وإنما كذلك لرمزية الموقع المستهدف الذي يختزل تاريخ الحضارات التي عرفتها البلاد عبر تاريخها والذي لا يبعد عن مقر البرلمان سوى بضعة أمتار قليلة ويوجد ضمن منطقة عسكرية وأمنية مغلقة. كما أن العملية حدثت قبل يومين فقط من العيد الوطني وأغلب ضحاياها كانوا من السياح الأجانب بما يمثله ذلك من استهداف واضح لأهم مجال اقتصادي تعتمده تونس في الحصول على العملات الأجنبية. الذئاب المنفردة ويرى جل المراقبين أن الجماعات الإرهابية بدأت تعتمد في تونس على استراتيجية "الذئاب المنفردة"، حيث يشير القيادي في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ومدير مركز تونس للدراسات الاستراتيجية طارق الكحلاوي إلى أن "التكتيك الارهابي الجديد اقرب نموذج يمكن به فهم الهجوم الذي هز العاصمة التونسية، ويبدو أنه سيصبح اكثر بروزا في الاشهر المقبلة بالتوازي مع تواصل الاسلوب التقليدي المتمثل في عمل المجموعات الارهابية في اطار حرب عصابات في الجبال المحاذية للحدود التونسيةالجزائرية". ويستطرد: "كلاهما يأتي في اطار المرحلة الحالية في خطة (إدارة التوحش) أي المرحلة الأولى من ثلاث مراحل وهي المعروفة باسم (شوكة النكاية والانهاك) التي تهدف تحديدا إلى إشاعة حالة فوضى أو (توحش)، بينما المرحلة الثانية هي (إدارة التوحش) وهي مرحلة وسطى تسبق المرحلة الأخيرة (التمكين) أو (السيطرة)". أما المحلل أحمد الفقي، فيلاحظ أنّ مسار العمليات الارهابية في تونس اتخذ منحى خطيرا على المستوى النوعي من حيث الخطّة المتبعة لانهاك أجهزة الدولة، مضيفا أن "ما قام به الارهابيون الأربعاء الماضي يندرج في إطار خطّة الذئاب المنفردة التي هي عبارة عن خلايا نائمة قليلة العدد تتخفّى عن أنظار الرصد الاستعلاماتي الأمني وتتعمّد القيام بفعل انتقامي تعاطفا أو ولاء لتنظيمات متطرفة على حين غرّة، حيث يتمّ تجنيد هذه العناصر الارهابية في كثير من الأحيان عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو عن طريق الاستقطاب المباشر". ويضيف الفقي أنّ "مثل هذه العمليات يُخطّط لها اعتمادا على عنصر المباغتة وبشكل محكم بناء على معطيات دقيقة يتحصّل عليها الارهابيون بطرق قد تصل إلى اختراق أجهزة الدولة ومؤسساتها، ما يكشف النقاب مجدّدا على ضرورة مزيد احكام القبضة الأمنية عبر مضاعفة العمل الاستباقي و التحضّر لما هو غير متوقّع". "القاعدة" و"داعش" وجاءت حادثة المتحف لتلقي بثقلها على ملف الإرهاب الذي يؤرق الدولة التونسية في ظل تحولات إقليمية مثيرة للقلق ووضع اقتصادي واجتماعي. كما كشفت تغلغل الجماعات المسلحة داخل البلاد من خلال اتساع دائرة الفكر المتشدد الذي استفاد من حالة انقسام مجتمعي ترسخت في مرحلة ما بعد الانتفاضة التي اطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، خاصة في مرحلة حكم الترويكا التي تزامنت مع بدء حالة الانفلات في ليبيا وظهور جمعيات ومنظمات متشددة تولت العمل على تجنيد الشباب وإرساله الى سوريا تحت غطاء استخباراتي إقليمي ودولي استفاد من الإطاحة بأجهزة الاستخبارات المحلية وإقصاء خبراء وزارة الداخلية المتخصصين في مكافحة الإرهاب بدعوى عملهم ضد الجماعات الإسلامية في النظام السابق. كما كان لإطلاق سراح المتهمين في جرائم إرهابية خلال عهد بن علي دور في تحولهم إلى عناصر متمردة تعمل في الخفاء على جلب وتخزين السلاح وتجنيد المقاتلين والتحرك ضد أجهزة الدولة التونسية. وعلى الرغم من أن تونس كانت بالأساس هدفا لتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، إلا أن ظهور "داعش" قلب الموازين في خريطة الجماعات الإرهابية في البلاد خصوصا مع اعلان تنظيم أنصار الشريعة الذي تم حظر نشاطه في أغسطس 2013 بعد ثبوت تورطه في اغتيال بلعيد والبراهمي مبايعته "داعش" الذي بات يسعى من خلال خلاياه النائمة في الداخل ومقاتليه المنتشرين داخل الأراضي الليبية الى توسيع دائرة حضوره في منطقة شمال افريقيا عبر البوابة التونسية، وهو ما تؤكده التقارير الاستخباراتية والتحقيقات الأمنية وكذلك التسجيلات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي لقيادات إرهابية تتحرك في إطار التنظيم سواء في سوريا والعراق أو ليبيا، والتي كان آخرها بيان تبني الهجوم الإرهابي على متحف باردو. عمليات استقطاب وفي هذا الإطار، يؤكد وزير الداخلية التونسي ناجم الغرسلي أن محاربة الإرهاب وبسط الأمن بين التونسيين يأتي في مقدمة أولويات عمل وزارته، ويشير في الوقت ذاته إلى أن ملف الإرهابيين العائدين من سوريا من أخطر الملفات، لافتاً الى أنه لا يمكن تقديم تفاصيل أكثر عن طريقة التعامل مع هذا الملف باعتبار صبغته أمنية. بدوره، يقر وزير الدولة لدى وزارة الداخلية رفيق الشلي باستمرار عودة إرهابيين تونسيين إلى بلادهم بعد التحاقهم بصفوف التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، مقدرا عددهم بالمئات. ويقول إن "معطيات وزارة الداخلية تشير إلى أن العدد الإجمالي للإرهابيين العائدين من داعش إلى تونس نحو 500"، مشيراً إلى "تواصل عملية الاستقطاب من طرف شبكات مشبوهة لتجنيد الشباب التونسي لصالح تنظيم داعش الإرهابي". تهديدات خارجية وحذرت القيادات الأمنية التونسية من التهديدات الإرهابية خارجية لا سيما ان بعض جيوب الارهاب التابعة ل"القاعدة" مازالت متمركزة على الحدود الغربية وتشكل دعما لنظرائها في كتيبة "عقبة ابن نافع"، كما أن الخطر الأكبر قادم من ليبيا التي تعد ارض عبور. ويرى المحللون الأمنيون أن المخاطر القادمة من ليبيا لا تتمثل فقط في تهريب السلاح أو تسرّب الإرهابيين عبر الحدود البرية المشتركة التي يبلغ طولها 500 كلم، وإنما كذلك من خلال تمويل الخلايا النائمة داخل تونس وتجنيد عناصر تونسية مقيمة في ليبيا أو مسافرة إليها ثم إعادتها الى تونس لتنفيذ عمليات إرهابية، كما تشير التقارير الأمنية الى ان التهديدات الإرهابية كبيرة ومتعددة بسبب شبكات التسفير والتمويل وتقاطع الارهاب مع التهريب إضافة الى خطر الخلايا الإرهابية النائمة التي يمكن ان تنشط بشكل منفرد. استنفار وتسليح وتشهد المناطق الحدودية التونسية مع ليبيا حالة طوارئ غير معلنة لمواجهة أي خطر إرهابي يمكن أن يتسلل من داخل التراب الليبي وينوه الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع المقدم بلحسن الوسلاتي إلى أن "الوحدات العسكرية مدعومة بوحدات الحرس الوطني والجمارك منتشرة في وضع دفاعي متكامل على كامل الشريط الحدودي البري والبحري مع ليبيا"، ويضيف أن هذا الانتشار يهدف إلى "تأمين الحدود ومنع أي تهديد لسلامة التراب التونسي أو أي محاولة لإدخال أسلحة أو تسلل عناصر إرهابية للبلاد". وبالتوازي، أعلنت وزارة الدفاع التونسية أنها ستتسلم ثماني مروحيات مقاتلة من طراز "بلاك هوك" من الولاياتالمتحدة خلال النصف الثاني من 2015 لتعزيز قدراتها في مكافحة الإرهابيين، وهو ما يؤكد عليه العميد السابق في الجيش ورئيس مركز تونس للأمن الشامل مختار بن نصر الذي يقول ل"البيان" إنّ "تأمين الحدود التونسية الليبية تم بالفعل من قبل أجهزة الدولة التونسية"، مشيرًا إلى "تمركز وحدات الجيش والأمن والجمارك لصد أي خطر يهدّد تونس من هذه الجماعات الإرهابية المسلّحة". وبحسب المراقبين، فإن تطور الصراع في ليبيا بات يمثّل خطراً على الداخل التونسي خصوصا في ظل وجود خلايا نائمة تسعى الى استقطاب مقاتلين تونسيين للانضمام إلى صفوف "داعش" في ليبيا والذي يضم بين صفوفه عددا من القيادات التونسية من بينهم أحمد الرويسي الإرهابي الخطير الذي أعلن مؤخرا عن مقتله في المعارك التي دارت في مدينة سرت. 3000+2000 تشير تقارير مخابراتية، إلى وجود أكثر من ثلاثة آلاف تونسي يقاتلون في صفوف تنظيم داعش داخل الأراضي السورية والعراقية، ونحو ألفي مقاتل داخل التراب الليبي يتوزعون على معسكرات في درنة وبنغازي وسرت وجبال ترهونة وطرابلس والزاوية وصبراتة، إضافة إلى خلايا نائمة داخل تونس يشرف عليها مقاتلون سابقون، بعضهم من العائدين من الخارج، والبعض الآخر ممن تم إطلاق سراحهم من السجون بعد إطاحة نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في يناير 2011 وجماعات جنّدت بعد الثورة. 20 كشفت تقارير استخباراتية أن سيف الله بن حسين الملقب بأبي عياض زعيم تنظيم أنصار الشريعة الموجود في ليبيا جهز أكثر من 20 انتحارياً تونسياً بمساعدة قيادات متطرفة تونسية وليبية لتنفيذ عمليات انتحارية نوعية، في إطار مخطط لإقامة إمارة تابعة لتنظيم "داعش" في الجنوب التونسي، ما دفع السلطات التونسية إلى تعزيزات أمنية وعسكرية على الحدود مع ليبيا، لمنع تسلل تنظيم داعش إلى داخل محافظتي تطاوين ومدنين. 730 شهدت تونس خلال عام 2014 ارتفاعاً في عدد العمليات الإرهابية التي سجلت بزيادة نحو 730 عملية عن عام 2013، لتبلغ نحو 1808 عمليات سنة 2014 مقابل 1078 عملية في 2013 وقد عرف الإرهاب في تونس منحى تصاعدياً، حيث انطلق من تفجيرات الألغام إلى نصب الكمائن واستهداف وحدات الأمن والجيش، ثم تنفيذ هجمات نوعية على مناطق حساسة ومراكز أمنية في البلاد.