قصة الدول العربية مع الانقلابات طويلة وحتى نستطيع فهم ما بجري الان في معظم العالم العربي علينا ان نعود بالذاكرة الى المراحل المختلفة ولاسيما انقلاب زين العابدين بن علي على بورقيبة في عام 1987 باعتبار ذلك الانقلاب محطة في غاية الاهمية يبين خفايا السياسة الامريكية في منطقة الشرق الاوسط وصولا الى حقيقة التوجه الامريكي بالسماح للتيارات الاسلامية بان تتسلم زمام الحكم في دول عربية . ومنذ 60 عاما والمنطقة العربية تعيش كابوس الانقلابات العسكرية أي بعد ثورة 23 يوليو في مصر 1952 التي بدورها لم تستمر سوى عامين قبل ان تنقلب على رئيسها محمد نجيب ليتولى جمال عبدالناصر زمام الحكم . ومنذ انقلاب الضباط الاحرار في مصر على النظام الملكي دخلت الدول العربية في دوامة من الانقلابات شملت معظم الدول العربية بعضها نجح والاخر فشل والمحاولات الانقلابية لم تنقطع ابدا على مدى 18 عاما حتى عام 1970 وكان اخرها الانقلاب الذي جاء بالرئيس السوري الراحل حافظ الاسد . سوريا شهدت اكثر موجة انقلابات واحيانا كل بضعة اشهر انقلاب جديد ويروي ناصر الدين النشاشيبي في كتابه "ماذا جرى في الشرق الاوسط" قصصا محزنة لسحل الرؤساء خاصة في العراق وسوريا وقصصا مضحكة لانقلابات بلا برنامج او هدف ومنها قصة وزير دفاع سوري دخل الى مكتب رئيس الجمهورية فاغلظ له الرئيس في القول واهانه .لم يتحمل وزير الدفاع الاهانة وقال الجيش عندي وساعات اكون انا الرئيس وفعلا حرك الدبابات الى القصر الجمهوري والاذاعة واعتقل الرئيس . بعد ساعات دخل ضابط سوري على وزير الدفاع الذي استولى على الحكم وادى التحية وقال:" سيدي سورية الان بين يديك". فرد وزير الدفاع:" وماذا سأفعل بها". كانت الدول العربية مستقلة حديثا وما ان انتهت موجة الانقلابات في عام 1970 حتى اصبحت الانظمة تنفق جزءا كبيرا من وقتها وموازنتها لإحباط أي انقلاب عسكري محتمل حتى اصبح المواطن العربي يحاسب على الكلمة والنوايا واطلقت يد اجهزة المخابرات العامة والحربية بلا حسيب ولا رقيب . وفي عام 1979 حدث ما لم يكن متوقعا عندما انتصرت الثورة الاسلامية في ايران فأصبحت الانظمة العربية تحارب على جبهتين الاولى احباط الانقلابات والثانية احباط أي ثورات شعبية اسلامية . توافق هذا التوجه مع سياسة امريكية حازمة بمنع تصدير الثورة الايرانية مهما كلف الامر سواء شعبيا او عن طريق الانقلابات واصبحت الانظمة العربية تنام ملئ الجفون لان امريكا يكل إمكاناتها العسكرية والاستخبارية تقف بالمرصاد لأي ثورة شعبية تلوح في الافق ضد أي نظام عربي ونقصد هنا طبعا الدول العربية الموالية لأمريكا . وفي عام 1982 خرجت الثورة الفلسطينية من بيروت واتجهت القيادة الفلسطينية الى تونس وقبل ان يتخذ بورقيبة قرار استقبال قيادة المنظمة بتونس اجرى اتصالا مع الادارة الامريكية وطلب منهم تعهدا بان لا تقوم اسرائيل بضرب الثورة الفلسطينية على الاراضي التونسية وحصل على التعهد الامريكي. وفي 1 اكتوبر 1985 قامت الطائرات الاسرائيلية بقصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في ضاحية حمام الشطبتونس . ثارت ثائرة بورقيبة وطلب السفير الامريكي بتونس وكان الرئيس التونسي منفعلا جدا واخذ يشتم امريكا والسفير باللغة الفرنسية وكان السفير يجيد اللغة الفرنسية الا ان بورقيبة لم يعجبه الحال وكان نجله الحبيب بورقيبة الابن حاضرا في الاجتماع وقال لنجله: "اشتمه بالإنكليزية حتى يفهم الشتيمة اكثر". كانت اهانة بالغة لأكبر دولة في العالم .. وكان رد الفعل الامريكي هو الصمت حتى يناير 1986 عندما قام نائب الرئيس الامريكي ومعه وزير الدفاع وعدد من المسؤولين الامريكيين بزيارة خاطفة لتونس استغرقت 4 ساعات فقط واجتمعوا مع بورقيبة ووعدوه بتقديم بعض الاسلحة للجيش التونسي كمساعدات لتهدئة غضبه . كان بورقيبة في حينها في السادسة والثمانين من العمر مريضا لا يقوى على متابعة دواليب الحكم وترك الامور بتفاصيلها لرئيس الوزراء محمد مزالي . الوضع الان تغير وبدأت امريكا تطبخ على نار هادئة ازاحته بانقلاب وتهيء رجلها زين العابدين بن علي . واختلف الوضع عن ما جرى قبل سنوات في عام 1980 عندما ارسل القذافي مجموعة مسلحة لتحتل مدينة قفصةالتونسية في الجنوب التونسي بهدف الانطلاق من قفصة لقلب نظام الحكم بتونس . سيطر المسلحون على قفصة بسهولة وكان في المدينة معسكرا للجيش من المتدربين فاخذ المسلحون كافة عناصر الجيش وعددهم نحو 300 جندي واحتجزوهم رهائن في مدرسة .. والحق يقال ان المسلحين باغتوا الجنود الذين كانوا نياما في عنابرهم بدون سلاح بعد ان قتلوا حارس البوابة . انضم عدد من التونسيين في المدينة للمسلحين وحملوا السلاح مع القادمين من ليبيا وبالمناسبة كان المسلحون من التوانسة ايضا لان القذافي استحدث في تلك الفترة معسكرات تدريب وكل معسكر من ابناء دولة عربية وكل معسكر مخصص لإحداث ثورة او انقلاب في دولة ما . جماعة تونس ادخلهم القذافي مع شاحنات من السلاح عن طريق الحدود الجزائرية التونسية للتمويه . استمرت سيطرة المسلحين على قفصة اكثر من اسبوع وتدخلت الطائرات الفرنسية لإنهاء سيطرة المسلحين حتى قضي عليهم تماما . امريكا طلبت من تونس توجيه ضربة تأديبية للقذافي بعملية عسكرية وتعهدت امريكا بأمداد تونس بكافة انواع السلاح اللازم والاموال الا ان بورقيبة رفض بشكل قاطع قائلا " ان حربا كهذه لن تنتهي في اسابيع وستمتد الى سنوات وتخلق جراحا دائمة بين الشعبين التونسي والليبي ". في حين اصر رئيس الوزراء التونسي آنذاك الهادي نويرة على الاستجابة لطلب امريكا وفرنسا ولكن بورقيبة ثار وغضب واصيب الهادي نويرة بجلطة فأقيل من منصبه وتم تعيين محمد مزالي رئيسا للوزراء. كان هذا المثال نموذجا لما اوردناه حول الحماية التي وفرتها امريكا لبعض الانظمة من الانقلابات والثورات . وعودة الى العام 1986 عندما بدأت امريكا تطرح موضوع خلافة بورقيبة جديا واخفت مرشحها للرئاسة زين العابدين بن علي في كل تحركاتها مع الفرنسيين تحديدا حيث اقترح الفرنسيون ان مرشحهم هو الهادي المبروك سفير تونس في باريس فلم يعترض الامريكان وقالوا للفرنسيين نتفق معكم على هذا المرشح. بدأ يتصاعد الحديث في الاوساط السياسية التونسية عن خلافة بورقيبة وتداولت النخبة اسماء عديدة بدءا بنجل بورقيبة وصولا الى شخصيات عديدة مرموقة ومرورا بالهادي المبروك الا ان الوحيد الذي لم يذكر اسمه مطلقا ولم يتوقعه احد هو زين العابدين بن علي وزير الداخلية.