لماذا فشلت الثورة أمام الإخوان والمجلس العسكرى؟ سؤال يثير الاستنكار قبل أن يثير الغضب.. ستجد من يقول إن الثورة لم تفشل بعد.. وأن آثارها تظهر على امتداد سنوات.. كما أن ما أدى إليها استغرق عقوداً.. ستجد من يقول إن اكتساح الإخوان فى الانتخابات البرلمانية وتكويشهم الحالى على السلطات ليس أمرا نهائيا.. وأن المجلس العسكرى لا يحكم قبضته على البلاد كما هو ظاهر.. ستجد من يقول إن الثورة تمر بفترة ضعف.. وأن قوتها ستظهر فجأة.. وتحسم الأمر.. كما ظهرت من قبل فجأة.. وقلبت كل الموازين. «مارك لينش».. الكاتب الأمريكي المهم، وصاحب كتاب «ثورات الشرق الأوسط التى لم تكتمل».. سيقول إنه ليس صحيحا أن الثورة المصرية ظهرت فجأة.. ولكنها كانت تتشكل على مدار عشر سنوات، لعبت فيها كل القوى المعارضة لنظام مبارك دورا لا يقل أهمية وحسما عن الدور الذى لعبه ميدان التحرير فى 18 يوما.. سيرد الفضل إلى حركة كفاية.. وإلى الصحف المعارضة التى كشفت فساد النظام.. وإلى كل المعارضين الذين وقفوا فى عز جبروت نظام مبارك لينظموا وقفات احتجاجية.. وإضرابات عمالية.. وإضرابات عامة.. ومظاهرات سحلوا فيها فى الشوارع على يد الأمن المركزى.. ليوجهوا ضربات أضعفت نظاما فقد شرعيته بفساده.. ليمنح الشرعية فى النهاية.. مرغما إلى الشعب. سيقف مارك لينش بلا انفعال.. ولا مصالح.. ولا مزايدة.. محاولا فى كتابه الذى صدر مؤخرا، أن يقرأ الأسباب الحقيقية التى جعلت الثورة المصرية حتى الآن، انتصارا لم يكتمل.. وقوة تضعها السلطات الحاكمة جانبا.. تنظر إليها بعين الحذر والترقب أحيانا.. وبعين التجاهل فى أحيان أخرى.. لكنها لا تضعها لاعبا جوهريا فى حساباتها بشكل يثير الدهشة.. والغضب. قال مارك لينش إن ثوار التحرير قدموا أنفسهم لأول مرة فى العام الماضى.. كانوا يشكلون عينة للجمهور.. أو للرأى العام المصرى الجديد الذى صار يتشكل دون أن يشعر به أحد.. كان يطلق عليهم دائما وصف «الشباب».. لكنهم لم يكونوا أطفالا.. ولا صغارا.. كان ثوار التحرير شباباً ونساء فى العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم.. حققوا نجاحات مهنية.. وتلقوا تعليما جامعيا على الأقل.. كان منهم من تشكل من كفاح سياسي متواصل على مدى عشر سنوات ضد نظام مبارك فى الشوارع.. ومنهم من يعبر عن أحزاب سياسية أو اتحادات عمالية أو حركات تجارية.. محامين وأطباء ومهندسين وأساتذة جامعات.. وطلبة.. وغيرهم. وقف شباب الإسلاميين كتفا بكتف مع الليبراليين دفاعا عن قضية واحدة مشتركة.. صاغوا مطالبهم المشتركة.. وتعلموا كيف يطورون طرقهم فى الاحتجاج وسط حراك سياسي عنيف لم يشهده المجتمع المصرى منذ عقود.. وكان هذا هو ما شكل لدى ثوار التحرير نوعا من «الرابط» المشترك الذى أذاب كل الفوارق الطبقية والفكرية والعمرية.. لكن هذا الرابط.. لم يكن من الممكن أن يستمر للأسف. لقد تمزقت تلك الرابطة التى ولدت فى ميدان التحرير عندما عادت السياسة لتحتل المشهد مرة أخرى.. لتصبح الشرعية الثورية.. مجرد لاعب جديد ينضم إلى الساحة السياسية..حتى ولو لم يعرف بعد كيف يلعب بقواعدها. بشكل ما، أصبح الحديث باسم الثورة نوعاً من القوة فى حد ذاته.. صارت حالة تشبه حالة «القومية العربية» التى ظهرت فى الخمسينيات من القرن الماضى.. عندما كان من يقول إنه يعبر عن أحلام وطموحات الشعوب العربية، ويتحدث باسم الأمة، صاحب قوة لا يستهان بها.. وأدى الكلام باسم القومية العربية إلى توحيد صفوف الكثير من العرب.. بنفس القدر الذى أدى به لمزيد من الانقسامات بينهم.. وهو أمر يقترب كثيرا، مما حدث بعد ثورة يناير فى مصر. لقد منح ثوار التحرير لأنفسهم بعد تنحى مبارك، نوعا من «السلطة المعنوية» على ما يجرى فى مصر.. لكنهم لم يدركوا أنه من السهل أن تزعم لنفسك هذه السلطة.. ومن الصعب، كل الصعب، أن تحكم أصابعك عليها. وضع ثوار التحرير أهمية كبيرة على فكرة مشاركتهم فى ثورة يناير، دون أن يفهموا أنه فى لعبة السياسة الحقيقية، تصبح ثورة يناير مجرد حدث تاريخي مهما كانت أهميته.. فما يحسم معارك السياسة الفعلية على الأرض، هو القدرة على تحريك الناس فى الشوارع.. وكسب الأصوات فى الإنتخابات.. والقدرة على التأثير فى وسائل الإعلام. ولا أحد ينكر أن الشرعية الثورية كان لها ثقل خاص ونوع من السلطة المعنوية بالفعل على الساحة السياسية المصرية الجديدة (كما كانت القومية العربية فى الخمسينيات بعد ثورة يوليو).. لكنها كانت تسبب مشاكل كثيرة أيضا من ناحية أخرى.. فالواقع أنه مهما بلغت حدة وبلاغة النشطاء على تويتر وعالم الإنترنت.. إلا أن هذا لا يضمن أنهم يتحدثون باسم شريحة كبيرة فى المجتمع.. أو باسم الأغلبية.. هم يبالغون فى إهدار أهمية وتأثير شريحة محدودة من الشباب الليبرالى.. المنفتح على العالم.. وكثير منهم مستريح ماديا إلى حد ما.. وهم مهما بلغ عددهم، فإن آراءهم تشكل أقلية «مميزة» .. لكنها محدودة وسط السياق العام. كان أمرا لا مفر منه إذن، أن تصطدم الشرعية الثورية مع الشرعية الديمقراطية عندما احتكم الكل إلى صناديق الانتخابات.. ووضع الكاتب فهمى هويدى يده على نقطة فى منتهى الأهمية، عندما كتب فى بداية يوليو الماضى، إن المشكلة الحقيقية تظهر عندما تحاول أى حركة، أو تيار سياسي بعينه، أن يفرض رأيه على الكل باعتباره الممثل الشرعى الوحيد للشارع أو للثورة.. وهى ليست الطريق التى يمكن أن تؤدى للديمقراطية بحال. فى الوقت نفسه، فلا يمكن الاستخفاف بهؤلاء النشطاء.. أو التقليل من قدرهم.. فقدرتهم على حشد أعداد كبيرة من الناس فى الشوارع مجرد مقياس واحد لمدى أهميتهم.. فهم أيضا يحتلون مكانا أساسيا على الساحة الشعبية التى تكونت بعد الثورة.. وعندهم الإمكانيات التى تمكنهم من تشكيل «نخبة مضادة».. آراؤها أكثر تأثيرا وثقلا من عدد أفرادها القليل.. بكثير. إن عملية تشكيل الرأى العام ليست مجرد «تجميع» للآراء والمواقف الفردية.. فالرأى العام الذى يملك الكلمة الحاسمة فى الأحداث يتشكل من خلال الأفكار.. والمواقف.. والخطب التى تسرى بين الناس فى الشارع.. ومع قلة عدد النشطاء مقارنة بحجم الشعب المصرى.. إلا أن تأثيرهم يتجاوز حجمهم بكثير.. خاصة مع قدرتهم المؤثرة على توصيل أفكارهم للناس.. وهى قدرة لا يمكن تجاهلها.. أو التقليل من شأنها. ظهرت هذه النقطة بشكل أكثر حدة فى الدول الأخرى التى شهدت ثورات بعد مصر: من الذى يتحدث فعلا باسم الشعب السورى فى ظل غياب أى قيادة شرعية وواضحة للمعارضة؟.. هل يمكن أن نعتمد على كلام مجموعات نصف مجهولة من نشطاء الإنترنت لنفهم ما الذى يجرى حقا فى سوريا؟.. ومن كان النشطاء الليبيون المجهولون الذين كانوا يدفعون القضية الليبية أمام العالم؟ وباسم من كانوا يتحدثون؟.. هل كان المعارضون البحرينيون الذين سيطروا فى البداية على مواقع التواصل الاجتماعى يعبرون عن بلادهم بأكثر من هؤلاء الذين احتلوا تويتر فيما بعد ليدافعوا عن موقف الأقلية السنية والمملكة؟. أما مصر.. فكانت تواجه سؤالا أكثر تعقيدا.. من صاحب الفضل الأكبر فى الثورة؟.. من كان صاحب كلمة الحسم؟.. من كان صاحب المشاركة الأكثر تأثيرا والذى يصبح بالتالى صاحب الثقل الأكبر فى معادلة ما بعد الثورة؟.. هل هى جهود مجموعة أفراد أدت أفعالهم لتغيير مجرى سير الأحداث؟.. هل كان من الممكن أن تكتمل الثورة فى مصر لولا جهود بضعة آلاف من الأشخاص صمموا بيأس وبإصرار وبصلابة على التمسك بميدان التحرير ضد هجوم بلطجية النظام؟.. أم إن الحالة التى كانت فيها مؤسسات الدولة فى مصر، من انهيار وتآكل.. مقابل تزايد قوة وغضب الشباب جعلت من التغيير أمرا حتميا؟ صار هذا الصراع أمرا محوريا فى السياسة بعد الثورة.. ففى البلاد التى حققت فيها الثورات جزءاً من أهدافها، مثل مصر وتونس، صار إغراء وبريق الشرعية الثورية أمرا يقف أمام استمرار الحكم العسكرى.. لكنه يقف أيضا فى وجه أى ممارسة نحو الديمقراطية فى البلاد.. لقد انتقد النشطاء الثوريون بلا كلل كل الحكومات الانتقالية.. والمجلس العسكرى، ولكنهم قاوموا فى الوقت نفسه، كل الجداول الزمنية التى كانت تحدد إجراء الانتخابات سريعا لأسباب مختلفة، أولها ضرورة صياغة الدستور أولا.. وثانيها هو حاجة الأحزاب الليبرالية لمزيد من الوقت لتنظيم أنفسها. وضع ذلك الثوار فى موقف حرج.. وجدوا أنفسهم بشكل غير مباشر وغير مقصود فى موقف قد يطالبون فيه المجلس العسكرى بالاستمرار فى الحكم لو أنهم أصروا على تأجيل الانتخابات.. كما حدث فى تونس عندما شعر الثوار الشباب أنهم وجدوا أنفسهم فجأة خارج النظام السياسي الذى تشكل بعد صراعهم العنيف ضد زين العابدين بن على. ربما بدا هذا غريبا.. إلا أنه من ناحية أخرى.. منطقى لو نظرنا إلى طبيعة القوة الاجتماعية والسياسية التى يتمتع بها الثوار.. أن القوة الحقيقية والمؤثرة للنشطاء تكمن فى قدرتهم على الخروج إلى الشوارع وإرباك سير الحياة الاقتصادية والسياسية العادى.. وبعضهم يفهم جيدا أنهم لن يحققوا نتائج جيدة حتى فى أكثر الانتخابات نزاهة وحرية.. معظمهم يبدو غير راغب، أو غير قادر على الاندماج فى تركيبة الأحزاب السياسية، أو الجماعات والحركات المنظمة التى لابد منها فى أى منافسة ديمقراطية طبيعية كما يفهمها العالم كله.. بعض الثوار حتى يتشككوا فى جدوى هذه الديمقراطية ويفضل التجارب الفوضوية، أو ما يطلق عليه الأناركية، والتجارب اليسارية للنظام السياسى.. لذلك، فمن الأفضل بالنسبة لهم كما يرون، أن يظلوا بعيدين عن الدخول فى مؤسسات، وأن يظلوا يمارسون سلطتهم من خلال الشارع. إن مسألة من يمثل الناس..أو من يملك حق التعبير عنهم أو الحديث باسمهم هى مسألة فى غاية الحيوية والأهمية.. بسببها انهارت نظم.. وعليها قامت حكومات.. فمثلا، كان النظام فى مصر يقول حتى آخر لحظة إنه يتحدث باسم الأغلبية الصامتة، وهى عبارة ظلت كل سلطة فى مصر ترددها حتى بعد الثورة.. والحقيقة التى لا يستريح إليها الجميع هى أن هناك قدرا من الصدق فى هذا الكلام حتى لو لم يكن الثوار يريدون الاعتراف بذلك.. فالثورات لا تحدث إلا عندما تكون هذه الادعاءات غير صادقة.. بمعنى أن يكون فساد النظام أو قمعه وعنفه سببا فى انصراف الناس عنه.. وقلب سير الأحداث. غياب الديمقراطية الحقيقية يزيد من حدة هذه الصراعات.. فلو لم تحدث انتخابات تحدد توازن القوى الحقيقي.. تسعى الحركات الموجودة فى المجتمع إلى أن تستعرض قوتها بأساليب غير مباشرة.. وصارت فكرة حشد الناس للنزول إلى الشارع فى مليونيات هى المعيار الذى تقيس به كل جماعة قوتها على الأرض.. أو على الأقل.. تستعرضها به. هكذا صارت ردة فعل السلطة كلما أعلنت قوة ما عن مليونية فى الشارع، أمرا لا يعكس قلقها من الصوت الحقيقى للشعب.. فهى تعرف أن هذه المليونات لا تعبر عن إرادة الشعب.. وإنما تعبر عن الثقل الحقيقي والفعلى لكل القوى فى المجتمع. لذلك، صارت الديمقراطية بهذا الشكل تمثل تهديدا حقيقيا لكل القوى السياسية التى تستمد قوتها من قدرتها على حشد الآلاف فى الشوارع.. وليس على حشد ملايين الأصوات لصناديق الانتخابات.