لا وجود لأرقام قاطعة فى أخطر ملف مالى فى مصر.. ملف الضرائب، توهمنا الحكومة بأنها تبنى الخطط وتسن القوانين من أجل الوصول لصيغة حقيقية فى ملف العدالة الاجتماعية، بينما تقول الأرقام المتاحة إن الحكومة تفقد السيطرة على أهم مورد من موارد الدولة والممول الرئيسى للموازنة العامة وهى الضرائب، وتحاول الحكومة أن تسد عجزها بالحديث عن موارد إنفاق الموازنة وأهمها دعم الفقراء سواء فى بطاقات التموين أو الطاقة أو العلاج.. توهمنا دائما أن الدعم لا يصل لمستحقيه وأن غير المستحقين أو الأغنياء يحصلون على نصيب كبير من الدعم، وهى دائرة تستنزف الحكومة ولن تصل لحلول جذرية لها، وكان الأجدى للحكومة أن تتحدث اكثر فى ملف الموارد قبل الحديث فى ملف الإنفاق المتواضع بفضل ضعف الاعتمادات فى الموازنة. يقول مسئول كبير فى وزارة المالية: إن تركيبة دافعى الضرائب فى مصر لا يصدقها عاقل، فالدولة تروج منذ سنوات أن القطاع الخاص ينتج أكثر من 75% من الناتج القومى الاجمالى، وتقول أرقام وزارة المالية: إن 80% من أموال الضرائب يتم تحصيلها من الجهات السيادية المتمثلة فى شركات الحكومة وقناة السويس، ومنها شركات البترول والشركات القابضة الحكومية ورواتب الموظفين وغيرها.. هذه المعادلة ببساطة تقول: إن من ينتج ويبيع ويحصد الأرباح لا يدفع الضرائب، بينما الشركات الحكومية ومنها المتعثر والخاسر والمديون إضافة إلى أن الموظفين الفقراء هم الذين يدفعون الضرائب إجباريا.
هذا الوضع المربك دفع رئيس الوزراء الحالى الدكتور حازم الببلاوى إلى التصريح خلال فترة توليه منصب وزير المالية ليقول: إن 70% من المجمع الضريبى لا يسدد ضرائب حقيقية عن نشاطه.. وقتها طالب حازم الببلاوى بسد ثغرات القانون واتباع نظام ضريبى سهل ومبسط بالنسبة للحكومة والأفراد.
الأرقام الرسمية تقول إن حصيلة الضرائب السنوية تصل إلى ما يقارب 240 مليار جنيه، ونصيب شركات القطاع الخاص من هذا الرقم لا يتجاوز 4 مليارات جنيه، والنسبة الباقية للأفراد وشركات ومؤسسات الحكومة والموظفين.. ليس هذا هو اكثر الأرقام المخيبة للآمال.. هناك رقم آخر يحتاج إلى نفى أو تأكيد، يقول مصدرنا إن مناقشات صندوق النقد الدولى مع مصر لمنحها قرض ال4.8 مليار دولار، هذه المفاوضات تطرقت إلى بند موارد الحكومة وعلى رأسها الضرائب، وقدر خبراء صندوق النقد الدولى حجم الضرائب التى يجب أن يدفعها القطاع الخاص فى مصر ب650 مليار جنيه، القطاع الخاص وحده مطالب بدفع هذا الرقم الذى يكفى فى حالة تحقيقه إلى دفع عجلة التنمية والبناء والخدمات إلى الإمام ورفع معدلات التنمية لتصبح مصر إحدى النمور التى ينتظرها مستقبل كبير.. هذا الرقم الكبير، إن صح، يكشف عن حجم اكبر جريمة منظمة ترتكب على أرض مصر، الجريمة لا تتوقف عند رقم 650 مليار جنيه، فهذا هو الرقم الذى يجب دفعه سنويا، ويجب أن نضربه فى عشرات السنوات لنعرف حجم حقوق الدولة التى استولى عليها رجال الأعمال.
ولا تتغيير خريطة دافعى الضرائب سنة عن أخرى.. لا يطولها أثر سنوات الرخاء ولا سنوات الأزمات الاقتصادية، وكأن هناك اتفاقاً غير معلن على الحفاظ على حد ادنى متواضع للدولة من أموال وأرباح رجال الأعمال.
ولا يخرج قطاع واحد فى الدولة عن هذه النظرية، حتى البنوك الأجنبية، معظم أرباحها يتم تحويلها للمقار الرئيسية لهم فى بلادهم الأصلية ليدفعوا الضرائب هناك، مقابل تحمل البنك المركزى وحده ضرائب تصل إلى 6 مليارات جنيه سنويا.. وكذلك الشركات متعددة الجنسيات التى تعمل فى انشطة تحصل على قدر كبير من الطاقة المدعومة وأهمها قطاع الأسمنت الذى تحتكره الشركات متعددة الجنسيات، وكذلك شركات الأسمدة والمنتج الرئيسى لهذين القطاعين يعتمد على الغاز الطبيعى والكهرباء والمازوت وكلها سلع مدعمة.
أما فى قطاع مثل الحديد فيكتفى بنهب خيراته مجموعة من رجال الأعمال الذين يتقنون فن التعامل مع الأنظمة والحكومات المتعاقبة فى مصر، من أحمد عز إلى أحمد أبوهشيمة وجمال الجارحى ورفيق الضو تاجر الخردة اللبنانى الذى نجح فى امتلاك أكبر شركات الحديد فى مصر «السويس للصلب».. معظمهم لا يدفعون ضرائب، ويبتكرون أساليب جديدة للتهرب من الضرائب.
قبل ثورة يناير كانت الدولة قد وصلت إلى قناعة تامة بأن منظومة النهب المنظم لخيرات مصر قد وصلت حد الخطر.. هذه القناعة دفعت الحكومة إلى طلب قائمة بأسماء دافعى الضرائب الكبار، قائمة واحدة يتمكن من خلالها صانع القرار من التفكير والوصول لنتائج حقيقية فى ملف موارد الدولة، العجيب أن المسئولين فى وزارة المالية لم يجدوا فى هذا الطلب أى صعوبة، كتبوا القائمة تفصيلية فى عدد محدود من الأوراق، قائمة تضم اسم الشركة ورقم ملفها الضريبى وسعر الضريبة التى تدفعها وصافى الربح الحقيقى والمحاسبى.. كتبت القائمة فى عام 2010، واعتمدت على الإقرارات الضريبية التى قامت بها الشركات منتصف عام 2009، وكانت هذه الإقرارات عن نشاط الشركات عام 2008، وهو عام الرخاء العظيم الذى وصل فيه معدل النمو إلى أكثر من 7%، بعدها زحفت تداعيات الأزمة المالية العالمية على مصر وتراجع معدل النمو، وكانت نتائج القائمة كارثية، فقد ثبت للمرة الأولى أن رجال الأعمال لا يدفعون سوى قدر هزيل من الضرائب.. بعد أشهر قليلة من إعداد هذا الملف الخطير انفجرت ثورة يناير، وحسب علمنا فإن المالية لم تقم بإعداد مثل هذا التقرير خلال السنوات التالية، ليصبح التقرير الوحيد عن دافعى الضرائب فى مصر، لم يخرج هذا التقرير للنور، لم تعلن الدولة تفاصيله ولا نتائجه، والأغرب أنه لم يتحول لمادة يدرسها الخبراء ليقولوا لنا ماذا يحدث فى منظومة الضرائب المصرية.. التقرير تسرب لنا، ونشرنا بعضا من تفاصيله، ولكنه يحتاج إلى خبراء من المالية وجمعية الضرائب ليفسروه ويحولوا الصدمات التى تحتويها أرقامه إلى قوانين وخطط تخرج البلاد من حالة الفقر.. وتوقف رجال الأعمال عن عملية النهب المنظمة.
جاءت الثورة لتقف عند الشعارات، لم تجد من يمنحها أرقاماً حقيقية عن حجم النهب، وطرق التحايل، انشغلنا عن الجوانب الحقيقية فى ملف «أكل العيش».. انشغلنا عن حقوق البلد فى أرباح رجال الأعمال التى يجمعونها من جيوب الغلابة.
حتى عندما جاء صندوق النقد ليدرس الاقتصاد المصرى ويقرر هل تستحق مصر قرض ال 4.8 مليار وهل تستطيع سداده.. وقتها قالوا لنا: إن الصندوق طالب بإلغاء الدعم.. لم يقل لنا أحد أن الصندوق طالب بتحصيل ضرائب حقيقية من رجال الأعمال.. هل تم تشويه الصندوق وشروطه لمصلحة رجال الأعمال؟ لا نعرف الاجابة، نحتاج أن تتبرع الحكومة بإقناعنا أو تحصيل أموالنا، أو على الأقل تبرر لنا لماذا لا يدفع أصحاب مصانع الحديد والأسمنت والأسمدة والبنوك.. لماذا لا يدفعون الضرائب؟.