هناك فرق بين التغير والتغيير، والفرق بينهما هو القصد والإرادة اللذان يلزم منهما وضع الخطة والتنفيذ، حيث إن التغير يحدث تلقائيا بتبدل الزمان وتغير الناس بالحياة والموت، وجريان الأحداث وتشابكها,، والاكتشافات التي تتم. سواء في عالم الحس والكون أو الومضات التي يفتح الله بها علي عباده في عالم الأفكار, والتي تؤثر بعد ذلك في العلاقات بين الناس، أفرادا وجماعا، وبين الدول والتكتلات. أما التغيير فهو ينظر إلي الواقع ويري فيه شيئا لابد أن يتبدل, وهنا يظهر القصد لذلك التبديل وتظهر الإرادة, ويسعي الإنسان لوضع خطة مناسبة لهذا التغيير ويقوم بتنفيذها حتي يتم مراده أو بعض مراده من هذا التغيير, وعملية بناء الحضارة تشتمل بالضرورة علي التغير والتغيير, وإذا كان التغير لا دور للإنسان فيه, إلا أنه يجب عليه فهم عملية التغيير ودراستها بروية لما لها من دور مهم في بناء الحضارة الإنسانية. وتحت عنوان التغيير, يقع المصطلحان( الإصلاح والتجديد), ويري فريق من الكاتبين في الأدبيات المعاصرة, طبقا لاستعمالهم هذين اللفظين, أنهما مترادفان, فيستعملون كل واحد منهما مكان الآخر. وأري أن هناك فارقا بين الإصلاح والتجديد, فالإصلاح يفترض نقصا ما في الواقع, وقد يصل هذا النقص إلي درجة الخلل, وهذا يستلزم شيئا من الهدم وإعادة البناء, ولذلك فإن الإصلاح يقتضي أيضا عدم التسليم بالموروث, واعتبار أن خطأ ما قد وقع عند السابقين فهما أو تطبيقا أو هما معا, وهذا هو المبرر والمسوغ لعملية الهدم والشروع في بناء جديد ينهي النقص القائم. وبهذا المفهوم للإصلاح يمكن قبول فكرة القطيعة المعرفية الجزئية أو الكلية, طبقا لرؤية المصلح ومساحة هذا الإصلاح ومساحة الرغبة والإرادة والقصد في التغيير, ومن خلال القطيعة المعرفية يتم نقد مصادر المعرفة, وأدوات التعامل معها, ويتم أيضا إيجاد معيار جديد للتقويم, ومن هنا تتم عملية تصنيف جديدة للمعرفة. وكل هذه خطوات ستكون هي الخطوات الأولي, لكنها الأساسية أيضا في خطة الإصلاح. والإصلاح بهذا المعني عادة يلقي مقاومة شديدة, لأنه أولا يدخل في صدام مع الثقافة السائدة. وثانيا لأنه يأتي بفكرة لم يتم بعد تجريبها, فتتخوف النفوس من قبولها. ولأنه ثالثا يأتي بتلك الفكرة ويصوغها بصياغات مبدئية ليس كصياغات العلوم المستقرة التي درست ونقلت من جيل إلي جيل. ولأنه رابعا يصف شيئا من الموروث بالنقص, ولذلك كانت مهمة الإصلاح أصعب وتحتاج إلي زمان أطول. أما التجديد فيتمثل في عملية إضافة جديدة لا تكر علي القديم بالهدم أو البطلان, بل تضيف الجديد الذي يحتاجه العصر, وموقفها من القديم مبني علي فكرة القائم بواجب الوقت, وأن السابقين قد قاموا بواجب وقتهم بناء علي مقتضيات حياتهم وأزمانهم, مع الاعتراف بأنهم حققوا نجاحات, وأن علينا واجبا يختلف عن واجب العصور السابقة, ولذلك فمع احترامنا للموروث فإننا لا نقف عنده ولا نقف ضده, بل نحترمه ونضيف إليه ونعيد صياغة مناهجه بصورة تتسق مع ما أضفناه من مناهج جديدة أيضا, وهذا مبني علي فكرة التفريق بين المسائل والمناهج. فالمسائل جمع مسألة, وهي ما عرفناه في دراسة النحو بالجملة المفيدة. وفي العربية تكون مكونة من مبتدأ وخبر أو من فعل وفاعل. والمتأمل في الجملة الاسمية والجملة الفعلية يجد أنهما جزءان: موضوع نتكلم عنه وشيء نسنده إلي ذلك الموضوع, ولذلك نري علماء النحو يتكلمون عن المسند إليه والمسند والإسناد. والمسائل كثيرة بعدد تعبيرات البشر, لكن عندما يقوم الإنسان بعملية الإسناد, فإنه يتخذ منهجا معينا أو مجموعة من المناهج حتي يحكم علي المسند إليه الحكم المناسب. وتختلف هذه المناهج باختلاف المجال الذي تنتمي إليه المسألة, فهناك المجال الحسي, كقولنا مثلا: الشمس مشرقة, أو النار محرقة. وهناك المجال العقلي كحقائق الرياضيات والهندسة, ولها تعلق أيضا بالحس عند تطبيقها أو استفادتها منه. وهناك المجال النقلي, كقولنا الفاعل مرفوع والمفعول منصوب, وهو ليس من وضعنا ولا من رغبتنا, لكنه شيء منقول إلينا في اللغة الموروثة. وهناك جانب أو مجال وضعي نتفق فيه علي مصطلحاته كالتأليف في العلوم المختلفة. وهناك مجال شرعي تستفاد منه الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية, كقولنا: الصلاة واجبة, والرشوة حرام. وهكذا فإن النسبة بين المسند والمسند إليه هي إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه. وكل مجال من المجالات السابقة له مصادره, وله أدوات الوصول إلي مسائله وله شروط الباحث في هذا المجال, وهذه الثلاثة هي المنهج في الحقيقة. ولذلك وجدنا من يصف أصول الفقه عند المسلمين بأنه منهج, حيث يتكلم هذا العلم عن أدلة الفقه الإجمالية( المصادر), وكيفية الاستفادة منها( الأدوات), وحال المستفيد( شروط الباحث). وفكرة عدم الوقوف عند المسائل واستعمال المناهج- مع إعادة صياغتها في بعض الأحيان إن احتاجت إلي ذلك, إبرازا لها وتفهيما للثقافة السائدة بحقائقها هي أساس مهم في معني التجديد. والمطلع علي الواقع المركب ينبغي أن يرفض فكرة الثنائيات, فليس الإصلاح والتجديد ضدين لا يجتمعان, ويجب ألا يصنف أحدنا نفسه مع الإصلاح في مقابلة التجديد, أو مع التجديد في مقابلة الإصلاح, أو أن نصنف الناس بأن هذا مصلح أو هذا مجدد, لأن التغيير المنشود قد يحتاج إلي الإصلاح والتجديد معا. وفي بعض الأحيان تختلف النسبة, فنحتاج إلي الإصلاح بنسبة أكبر من التجديد أو العكس, أو نكون علي حد سواء في الاحتياج إليهما معا وبنسبة متساوية. هذا التحرير الدقيق لمفهوم الإصلاح والتجديد أمر فارق في عملية بناء الحضارة, بل يمكن القول إن العديد من الحضارات لم يكتب لها البقاء, بسبب اختلاط مردود هذين المصطلحين في تراثها الفكري, ومن ثم يجب علينا تحريرهما ودراستهما بعمق, إذا أردنا أن نفهم عملية بناء الحضارة, وكيفية تثبيت قواعدها في أرض راسخة تستمر عبر الأجيال, والله هو المستعان. نقلاً عن الأهرام