كان أبى يخطو نحو الستين من عمره المديد.. كان رجلاً كبيراً، ناضجاً وقوراً.. وكنت أحبو نحو التاسعة من عمرى.. كنت صغيراً، ولكن مدركاً، منتبهاً لما يدور حولى.. كان أبى صائماً – كعادته التى بدأها فى التاسعة من عمره إلى أن مات صائماً، متوضئاً، متأهباً لصلاة لم يحن وقتها بعد.. بينما كنت صائماً – نص يوم – كما أقنعتنى والدتى، مراعاة لجسدى النحيل. ولم يكن هناك أى شىء يشير أن تلك الليلة- ليلة التاسع من شهر رمضان – ستكون ليلة فارقة فى تاريخ مصر.. ليلة سيتبين بعدها الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وستكون هى آخر ليلة حزينة فى تاريخ مصر السياسى. أتصور أنها حملت بعض صفات ليلة القدر التى ترقبناها طويلاً.. على المستوى الشخصى، كنت حزيناً لسفر ابن عمى – العريس – تاركاً عروسه بعد أقل من خمسة أيام من الزفاف، وذهابه إلى مكان غير معلوم.. فقط كل ما أتذكره أننا ودعناه وهو يستقل قطاراً.. إلى أين؟.. الله أعلم. عدت عند الظهيرة إلى منزلنا.. حيث والدى ووالدتى وأشقائى.. كل شىء يسير على ما يرام.. العمل على قدم وساق لتحضير وجبة الإفطار.. إفطار رمضان الكريم.. الكل – كل من فى البيت – يعمل.. الكل له دور.. صحيح أن الكل يؤدى دوره بشكل روتينى، ولكن نفحات الشهر الكريم تجعل لكل عمل معنى، ولكل معنى ذكرى، ولكل ذكرى متعة.. حتى وإن كانت القلوب تفتقد البهجة.. ولكن أليست أيام وليالى شهر رمضان فى حد ذاتها تشكل متعة للقلب، وبشارة للنفس؟ أعود من حيث بدأت.. إلى أبى.. الذى كان يقرأ القرآن.. وهى أكثر صورة شاهدت عليها أبى فى أعوامه الثمانين.. إما تلاوة القرآن الكريم أو الصلاة.. فجأة.. علا الضجيج.. اختلطت الأصوات.. وعلى الرغم من أن صبياً فى مثل عمرى يمكن أن يفزعه مثل هذا الأمر، إلا أننى لم أشعر بالخوف، ربما شعرت بالرهبة، ولكن شيئاً ما جعل التفاؤل والبشرى يتسللان إلى مشاعرى.. شىء ما تم بثه عبر جهاز "الراديو" الخشبى الضخم الذى يتصدر قائمة (الأهم) فى حياة أسرة مصرية بسيطة.. الله أكبر... الله أكبر.. سمعتها واضحة، قوية، مزلزلة من داخل بيتنا، ومن خارجه.. الله أكبر.. الله أكبر.. نداء يتكرر الله أكبر.. الله أكبر زغرودة انطلقت من أمى وهى تنظر إلى أبى تستأذنه للسماح فى فعل لم يتكرر فى حياة أسرتى، حتى فى نجاح الأبناء، أو فى أى حادث سعيد، فقد كانت أمى تترك مظاهر الاحتفال لمجاملات الجيران ومشاركتهم. الله أكبر.. الله أكبر.. تعلو.. وتعلو.. ويتعلق قلبى بالنداء، ولكنى أريد أن أفهم.. انخرط أبى فى بكاء مكتوم.. ثم قام فصلى. شاهدته.. ولم أسمعه.. شعور بالارتباك يتملكنى.. فأنا مازلت لا أفهم ما يحدث. وفى السياق أتذكر الآن أن أبى لم يبك فى حياته – على الأقل أمامنا – سوى أربع مرات تحديداً.. هذه هى الأولى، أما الثانية فقد رأيته عليها وهو يحمل شقيقاً لى يكبرنى بعد أن فارق الحياة بين يديه، أما الثالثة فهى لحظة أن فارق أبى نفسه الحياة وهو يستشعر اللحظة بكل قسوتها.. فقد نظر إلى أشقائى وبكى فى رفق، وذهبت إليه بعد وفاته بلحظات ورأيت على وجهه ألم الفراق.. رحمك الله يا أبى.. وهناك مرة رابعة بكى فيها أبى حسب مافهمت من رواية له أنها يوم هزيمة 1967. الآن.. ماذا يبكيك يا أبى.. وهى المرة الأولى التى أجدك فيها على هذا النحو من الضعف، الذى تبين لى أنه (ضعف الشعور بالقوة).. عبرنا.. انتصرنا.. رفعنا علم مصر على أرض سيناء المغتصبة، التى كانت مدنسة.. انطلقت الزغاريد.. واحد من جيراننا أعد الشربات الأحمر بماء الورد اللذيذ على الإفطار ، مصر أصبحت جميلة.. الناس سعداء.. نسينا.. ابن عمى على الجبهة، وقلنا لزوجته "مبروك" دون أن نسأل عن سلامته.. فسلامة مصر فوق الجميع.. أتذكر الآن أن أغلب سكان البناية التى نسكنها تجمعوا فى شقة واحدة وتناولوا الإفطار ملتصقين ببعضهم البعض.. الناس تضحك.. شهر رمضان أجمل.. تذوقنا كلمة (العبور) التى مازلنا نرددها بمناسبة وبدون مناسبة كنا غير مدركين وقتها أن (العبور) شمل معنوياتنا وأخلاقنا، وسلوكياتنا.. لدرجة وحدتنا.. تماماً كما قالوا الكل فى واحد.. سهرنا نحن الأطفال فى الليالى التالية حتى صلاة الفجر، نلعب ونمرح، ونستمع إلى البيانات فى المقهى القريب على ناصية شارعنا.. قمنا بتصنيع مسدسات، وبندقيات من الخشب والبلاستيك، لنقلد أبطالنا وهم يحصدون عساف ياجوري ورفاقه.. ويسلسلونهم كأسرى حرب.. نقول للأبطال بأثر رجعي.. شرفتونا.. [email protected]