دموع النائب أكرم الشاعر علي ما أصاب (مصعب) ولده أصدق أنباء من الكتب، نبل المشاعر التي اختزنها الشاعر بين جوانحه، ولوعته علي عجز ولده، وحرقة قلبه علي ماأصابه، اخترقت قلوبنا ألما، فتتها حزنا، نحرتها لوعة، يالوعة قلوب الأمهات. لوعة قلب الأب لا تقدر بلوعة قلب الأم، قلوب الأمهات المحروقة علي أولادها لا تقدر بشيكات، ولا بتعويضات، ولا بتعيينات، ولا بكلمات جوفاء، حرقة قلب الأم علي فقدها الابن والسند، حالة استثنائية في الألم لا يعرف الألم إلا من يكابده، إلا من يلمسه، نار موقدة تتطلع علي الأفئدة، كان هنا يمرح، كان هنا يلعب، كان هنا ينام، كان هناك يأكل، أين هو أنه، عند الذي لايغفل ولا ينام، الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فاتونا الحبابيب. دموع النائب أكرم الشاعر تفتت الصخرالصوان ومن الصخر ما تفتته أنهار الدموع التي سكبت علي جدع أصابته يد الغدر والخيانة والخسة، بالدمع جودي ياعين، وبالدمع جودي ياعين الشاعر . في جمعة مثل هذه، في يوم مثل هذا، في ثورة مثل هذه راح الجدعان، راح الشباب، الخونة قطفوا أندر مافي الحديقة من زهور يانعة تفتحت باسم ربها، دمها مسك وعنبر يعطر الميدان وكل الميادين، خرج الشباب وعادوا بالنصر، ولكن منهم من لقي ربه ومنهم من يتألم من قسوة أصابته، أصاب عمي القلوب العيون التي بها يبصرون، أورثوهم ظلمة، ظلمة القبر، أو ظلمة كالقبر، ولكنهم يرون بضياء الله، قلوبهم مبصرة وإن فقئت العيون التي بها ينظرون. دموع الشاعر أعرفها جيدًا، دموع أب محروق، دموع من ينظر إلي ابنه يداري عجزه، يداري ألمه، وأمه ترقب حبيبها بألم يأكل كبدها، يمزق أحشاءها، يورثها ألما لاتقوي علي احتماله، كم من أم فقدت، كم من أب فقد، كم من زوجة ترملت، كم وكم وكم، وعد الجروح يا ألم. كلمات الشاعر التي رواها بدموعه حركت المشاعر التي تجمدت، هناك قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، ومن الحجارة مايتفجر منها الأنهار، أنهار الدموع التي انسابت طوال عام مضي لم تجد من يمسحها، ويربت علي ظهور من يبكي، يبلسم الجروح، ويهدئ النفوس، شروهم بضاعة، بثمن بخس دراهم معدودة، الشيكات ليست مناديل تمسح دمعا، ولا الديات تبلسم جرحًا، القصاص شرع الله في الأرض ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، القصاص هو من يكفكف الدم، ويداوي الجروح، وفر دواك أحسن يا رئيس، وفر شيكاتك، وفر مخصصاتك، يكفي العدل فيمن ظلمهم، فيمن قتلهم، قصاصا عادلا ناجزا لايستثني أحدًا من زبانية جهنم التي فيها يرتعون، ويتباكون، ويتمسكنون الآن في السجون، حتي يتمكنوا، يعاونهم نفر من المرائين المشائين بين الناس بنميم، وفي مقدمتهم نفر من المحامين الضالين المضلين . لايريدون جزاء ولاشكورا، لايريدون نصبا تذكاريًا، يريدون قصاصًا وحسن مايريدون، أمهاتهم نزلن التحرير بالأسود، يتشحن بالأسود، أسودت الدنيا في عيونهن، أطفأن في العيون نورا، كانوا نور العيون، وهل تري العين بعد إظلامها، ماذا تري، هل تري تلك السيدة العجوز التي تنتحب، لاتقوي علي الوقوف، سلبوا سندها وعكازها في الحياة، صارت يتيمة، اليتم ليس يتم الأم فحسب بل يتم الولد، أن تصبح بلاولد وأنت أنت من حملت وهنًا علي وهن وفصاله في عامين، كانت تصحو في قلب الليالي الموحشة تغطي الوليد حذر البرد، كانت تصحو قبل العصافير المغردة تلبس وتفطر وتذهب بالحيلة إلي المدرسة، كان ينام في حضنها، تدفئ أيامها بلحمه الطري، لماذا صارت أيامها برداً قارساً، كل هذا الزحام من حولها لأحد. أعرفها تذهب يوميًا تؤنس وحيدها في القبر، وتنتحب، وتنادي ياولدي، ياكبدي، أعرفها عندما تغادره بجسمها وتترك قلبها وروحها هناك تؤنسه في وحشة القبر، روح وريحان، وتصلي وتركع وتسجد مع الساجدين وتدعو اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم نور قبره ووسع لحده، وسامحه واغفر له إنه كان من الشاكرين، وتنام علي جنبها يؤلمها وجع الفراق تكمل النحيب، تكمل سيمفونية الحزن النبيل، تلهج بالدعاء، اللهم افرغ عليها صبرًا، تصطبر إن الله من الصابرين، تحتسبه شهيدًا عند الله، حسبنا الله ونعم الوكيل. أكرم الشاعر لاتحزن، حزنك اليوم نبيل، لم تطلب ثمنًا، لم تطلب ميزة، تطلب قصاصاً، أكرم لاتحزن، إن الله مع الصابرين، عجز ابنك تعوضه قدرتك علي طلب حقوق الأرامل والأمهات، لحكمة من ربنا ساقك الله إلي هذا المكان لتعبر عن حزن مكتوم في الصدور، لتضع القضية في مكانها الصحيح، ولايصح إلا الصحيح، دم الشهداء في رقبتك وزملائك أجمعين، لا تفريط، لا تسويف، قضية أولي، بحق تلك السيدة التي نادتني في عرض الطريق لأعبر بها، كان يعبر بها قبل أن يغدروه، كان سندها وعكازها، لم تعرف أنه يوم أن خرج لن يعود، لاتصدق أنه لن يعود، عندها لا يزال أمل في عودته، لا تصدق أنها كفنته بيديها، ذهل منها العقل وصارت تراها في كل لحظة، تكلمه، تناوشه، تهدهده تربت علي ظهره تغطيه في سريره البارد، مال سريره بارد هكذا، متي يعود إلي السرير، متي أحس بالدفء يسري، حديث الروح يسري وتدركه القلوب بلاعناء، صمت الشاعر وتكلمت دموعه .. هل من مجيب؟! نقلا عن الأخبار