"عدالة شكلية، أم قصاص عادل؟".. هذا هو السؤال الذي يشغل بال كافة المتابعين للأحداث خلال ال24 ساعة الماضية، وذلك بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع ماريا لفوفا بيلوفا ، المفوضة الروسية لحقوق الطفل في مكتب الرئيس، وهل بالفعل تمتلك تلك المحكمة آليات تحقيق العدالة، أم أنها أداء سياسية فقط، وهنا يجيب لنا التاريخ و21 عامًا، هي عمر تلك المحكمة. 21 عامًا بحثًا عن العدالة حول العالم المحكمة الجنائية الدولية تأسست سنة 2002 كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء، تبدأ عملها بعد أن تقوم الأجهزة القضائية المحلية بدورها القضائي، ما لم تبد المحاكم الوطنية رغبتها أو كانت غير قادرة على التحقيق أو الادعاء ضد تلك القضايا، كما تقتصر قدرة المحكمة على النظر في الجرائم المرتكبة بعد 1 يوليو 2002، تاريخ إنشائها، عندما دخل قانون روما للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ. هي أول هيئة قضائية دولية تحظى بولاية عالمية، وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع بحق الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري، وبلغ عدد الدول الموقعة على قانون إنشاء المحكمة 121 دولة حتى 1 يوليو 2012 «الذكرى السنوية العاشرة لتأسيس المحكمة»، وقد تعرضت المحكمة لانتقادات من عدد من الدول منها الصين والهند والولايات المتحدةوروسيا، وهي من الدول التي تمتنع عن التوقيع على ميثاق المحكمة. قرار الأمس المثير للجدل.. بوتين مطلوب للتحقيق وكان القرار المثير للجدل الذي أصدرته تلك المحكة أمس، هو مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قضية نقل قسري لأطفال إلى روسيا بعد غزو الكرملين لأوكرانيا، حيث يتهم الأوكرانيون موسكو بمحاولة الإبادة الجماعية ضدهم والسعي لتدمير هويتهم - جزئيًا من خلال ترحيل الأطفال إلى روسيا، وقد قالت المحكمة في لاهاي في بيان يوم الجمعة إن بوتين مسؤول عن جريمة حرب تتمثل في الترحيل غير القانوني للسكان (الأطفال)، والنقل غير القانوني للسكان (الأطفال) من المناطق المحتلة في أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي. وجاء في البيان: "هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن السيد بوتين يتحمل المسئولية الجنائية الفردية" عن هذه الجرائم، وأوضحت أن الرئيس الروسي فشل في ممارسة سيطرته بشكل صحيح على مرؤوسيه المدنيين والعسكريين الذين ارتكبوا الأفعال" والذين كانوا تحت سلطته وسيطرته الفعلية، كما تعرضت ماريا لفوفا بيلوفا ، المفوضة الروسية لحقوق الطفل في مكتب الرئيس، لضربة من المحكمة الجنائية الدولية لدورها في عمليات الترحيل. هكذا كان حديث أوكرانيا بعد القرار وقد وصف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إصدار مذكرة التوقيف ضد بوتين بأنه تاريخي، وقال إنه سيؤدي إلى مسؤولية تاريخية، وأوضح زيلينسكي في خطابه الليلي مساء الجمعة: "تم بالفعل تسجيل أكثر من 16000 حالة ترحيل قسري لأطفال أوكرانيين من قبل المحتل في إجراءات جنائية حقق فيها ضباط إنفاذ القانون لدينا، لكن العدد الحقيقي والكامل للمبعدين قد يكون أعلى من ذلك بكثير". وهذه هي المرة الأولى التي تصدر فيها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بشأن الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، والذي بدأ في فبراير الماضي، ويأتي هذا قبل زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى روسيا الأسبوع المقبل وسيحد بشدة من نطاق الزيارات الدبلوماسية المحتملة لبوتين. ترحيب طبيعي من المعسكر الغربي وكان من الطبيعي، أن يبدى المعسكر الغربي المؤيد لأوكرانيا، والمناهض لبوتين بهذا القرار، فمن جانبه رحب الرئيس الأمريكي جو بايدن بأمر الاعتقال، قائلاً إن بوتين ارتكب بوضوح جرائم حرب، والمحكمة الجنائية الدولية، بإصدارها مذكرة التوقيف، تضع نقطة قوية للغاية، وبالرغم من التقارير العديدة التي تفيد بأن القوات الروسية ارتكبت جرائم حرب في أوكرانيا، وتلك جرائم لم تشملها المحكة، إلا أن الترحيل القسري لروسيا للأطفال الأوكرانيين يرقى إلى مستوى جريمة حرب. بينما قالت الحكومة الفرنسية، إنه ينبغي ألا يفلت أحد من العدالة، وأوضحن أنه وفاء منها بالتزامها الطويل الأمد بمكافحة الإفلات من العقاب، ستواصل فرنسا دعم العمل الأساسي للعدالة الدولية لضمان محاسبة المسؤولين عن جميع الجرائم المرتكبة في أوكرانيا، وأعلنت تقديم دعمها الكامل للمحكمة الجنائية الدولية ، وكذلك للمحاكم الأوكرانية التي تساهم في تحقيق هذا الهدف. سخرية من القرار في المقابل، عبرت روسيا الجمعة عن سخريتها من قرار المحكمة، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في رسالة عبر تطبيق تلجرام إن قرارات المحكمة الجنائية الدولية عديمة الأهمية بالنسبة لبلدنا، وباطلة، وروسيا لا تعترف بالقانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وليست عضوًا في نظام روما التأسيسي، وأوضحت زاخاروفا، أن موسكو لا تتعاون مع المحكمة، ومذكرات التوقيف الصادرة منها باطلة قانونيا بالنسبة لروسيا. ويذكر أن روسيا وقعت بالفعل على نظام روما الأساسي في سنة 2000، ولكنها سحبت دعمها له في عام 2016، وذلك بعد أن صنفت المحكمة الجنائية الدولية ضم موسكو لشبه جزيرة القرم الأوكرانية على أنه صراع مسلح. فيما قالت مفوضة حقوق الطفولة الروسية ماريا لفوفا، والتي صدرت بحقها أيضا مذكرة توقيف من المحكمة: "فرضت علي عقوبات من جميع الدول، حتى اليابان، والآن مذكرة توقيف، وكل هذا لا يهمنا وسنواصل عملنا"، وأضافت ساخرة: "من الجميل أن المجتمع الدولي قد قدّر عملنا لمساعدة أطفال بلادنا وأننا لا نتركهم في مناطق العمليات العسكرية ونخرجهم منها". اتجاه لمحاكمة روسيا لقضاة المحكمة الجنائية الدولية ويبدو أن روسيا لن تكتف بالسخرية من تلك الخطوة، حيث أمرت لجنة التحقيق المسؤولة عن الأبحاث الجنائية الرئيسية في روسيا، بفتح تحقيق في إصدار المحكمة الجنائية الدولية غير القانوني لمذكرات توقيف بحق مواطنين روسيين، وذلك في إشارة لمحاكمة هؤلاء القضاة في وق لاحق. ووفقا لما أعلنته وسائل الإعلام الروسية، فسوف يتعين على المحققين الروس تحديد هوية قضاة المحكمة الجنائية الدولية الذي يقفون وراء القرار في ضوء إجراءات رد محتملة في المستقبل، فيما وجهت مديرة تلفزيون "آر تي" الروسي مارغريتا سيمونيان تهديدا مبطنا لأي دولة تريد توقيف بوتين، وذلك عندما كتبت على تويتر في إشارة واضحة إلى سرعة الصواريخ الروسية "أود أن أرى الدولة التي ستعتقل بوتين بموجب قرار لاهاي، ستستغرق الرحلة إلى عاصمتها نحو ثماني دقائق". تاريخ قضايا المحكمة يكشف مستقبل مذكرة بوتين فيما يخص القرارات المتعلقة بالزعماء، نجد أن الرئيس السوداني السابق عمر البشير والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي هما الزعيمان الوحيدان اللذان وجهت لهما المحكمة الجنائية الدولية اتهامات أثناء توليهما قيادة بلديهما، وقد تم إلغاء التهم الموجهة إلى القذافي بعد الإطاحة به وقتله في عام 2011، فيما ظل البشير، المتهم عام 2009 بارتكاب إبادة جماعية في دارفور، في منصبه لعشر سنوات أخرى حتى أطيح به في انقلاب، ومنذ ذلك الحين، يحاكم في السودان على جرائم أخرى لكن لم يتم تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية. وقد حاكمت المحكمة الجنائية الدولية رئيس دولة سابقا بعد أن ترك منصبه هو الرئيس الإيفواري السابق لوران جباجبو الذي تمت تبرئته من جميع التهم في عام 2019 بعد محاكمة استمرت ثلاث سنوات، ووجهت المحكمة اتهامات إلى الرئيس الكيني وليام روتو وسلفه أوهورو كينياتا قبل انتخابهما، ومنذ ذلك الحين تم إسقاط التهم الموجهة إلى كلا الرجلين، وكينياتا هو الزعيم الوحيد الذي مثل أمام المحكمة الجنائية الدولية بينما كان لا يزال في منصبه. إدانة زعماء سابقين أمام محاكم أخرى وقد يظن البعض أن المحكة قد أصدرت حكما بحق الرئيس الصربي الراحل سلوبودان ميلوسيفيتش، لكن هذا لم يحدث، حيث حوكم هذا الزعيم كأول زعيم دولة سابق يمثل أمام محكمة دولية منذ الحرب العالمية الثانية، أمام محكمة تابعة للأمم المتحدة بتهم ارتكاب جرائم خلال حروب البلقان في التسعينات، وقد توفي في أثناء احتجازه عام 2006 قبل النطق بالحكم. وكذلك أدانت محكمة سيراليون الخاصة التي تدعمها الأممالمتحدة في لاهاي الرئيس الليبيري السابق تشارلز تيلور بارتكاب جرائم حرب في عام 2012، وهو أول رئيس دولة سابق يُدان بارتكاب جرائم حرب من محكمة دولية منذ محاكمات نورمبرج للقادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية، فيما غادر رئيس كوسوفو السابق هاشم تقي، أحد خصوم ميلوسيفيتش في حروب البلقان في التسعينات، منصبه بعد أن وجهت إليه محكمة جرائم الحرب في كوسوفو في لاهاي لائحة اتهام بارتكاب جرائم حرب، ومن المقرر أن يمثل للمحاكمة الشهر المقبل. آثار قرار الجنائية الدولية وبالتأكيد وفق ما سردناه من تاريخ قضايا تلك المحكمة، فإننا لن نرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محتجزا في زنزانة في لاهاي في أي وقت قريب، ولكن مذكرة اعتقاله بشأن ارتكاب جرائم حرب قد تلحق الضرر بقدرته على السفر بحرية والالتقاء بزعماء العالم الآخرين الذين قد يشعرون بأنهم أقل ميلًا للقاء رجل مطلوب للعدالة، فبوتين ثالث رئيس دولة توجّه له المحكمة الجنائية الدولية اتهامات وهو ما زال في السلطة. ويرى بعض المراقبين أن إصدار مذكرة التوقيف يبقى لحظة مهمة دولياً، لأنه يرسل إشارة قوية إلى كبار المسؤولين الروس -عسكريين ومدنيين - الذين قد يكونون عرضة للمحاكمة إما الآن أو في المستقبل، ويحد من قدرتهم على السفر دوليًا، بما في ذلك حضور المنتديات الدولية، بحسب ما أفادت صحيفة "الجارديان" البريطانية.