ربما الهيمنة الذهنية الاستشراقية تعود الى عدة قرون منها عهود التوسع الاغريقي واليوناني، لكن اكثر الغزوات الفكرية تأثيرًا وفرضًا حصل منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا الراهن أي مع استلام أوربا الغربية والانكليز وبعدها أمريكا زمام ريادة نظام الهيمنة العالمية بعد تحولها من منطقتنا منذ القرن الثاني والثالث عشر بسبب الدوغمائية والقالبية الدينية التي بسطت نفوذها في وجه الفلسفة والعلم والفن وبسبب توظيف أصحاب السلطة الموروث الثقافي والتاريخي والديني لتمكين أركان سلطتهم وحكمهم بعيدًا عن روح وجوهر الانسان والمجتمع وقيمهم. مع بدايات القرن التاسع عشر بسطت أوربا أحتكارها لوعي الحقيقة وحققت دخولها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتفوقها في وعي الحقيقة الذي تفوقت فيها على المعارضين لها سواء من منطقتنا أو عندهم، حيث تحول طريقة تناول المبعوثين والكشافيين الرحل للمنطقة وطريقة فهمهم ونهجهم ونظرتهم الى مدرسة فكرية سميت "الاستشراقية" وهي بهذا تعني أنها الهيمنة الذهنية لمدنية(حضارة) أوروبا الغربية. ومنذ القرن التاسع عشر بدأ منطقتنا تفقد استقلالها الذهني تدريجيًا، ودخل المتنورون والنخبة والمفكرون تحت تأثير وحاكية الفكر الاستشراقي، وهنا كانت الضربة الكبرى حيث نجحت المشتقات الفكرية الليبرالية في التجسيد على أرض المنطقة والتحكم بمصائرها والتعبير عن نفسها من خلال أبناء منطقتنا، وكانت القوموية هي التي تتصدر ذالك النهج الغريب والبعيد عن خصائص التنوع والتعدد الطاغي لمناطقنا. وكما يمكننا القول أن التيار الإسلاموي المنشأ أو الاسلام السياسي والحركات الدينية الأخرى هي أيضًا من القوالب الاستشراقية. ويمكننا ملاحظة أن مضمون حركات الدول القومية المتصاعدة مع بدايات القرن العشرين ماهي الإ مؤسسات عميلة وملحقة و تتبع الفكر الإستشراقي الغربي. بمعنى أنه رغم كل التشدق من قبل مؤسسي الدول القومية على إستقلالهم ووطنيتهم وقوميتهم لم يكونوا كذالك بل هم أدوات وأليات لحقيق الربح الأعظمي للنظام المهيمن العالمي على حساب شعوبهم ومجتمعاتهم. وحتى أن الفكر اليساري كان بصمات الاستشراقية واضحة فيه. ومن الأمثلة على النخب السلطوية الاستشراقية كان مايسمى بتركيا الفتاة وجمعية الأتحاد والترقي الذين كانوا ينتهلون قوتهم وانتصارهم في حرب السلطة في تركيا العثمانية و المستحدثة من ذهنيتهم الاستشراقية التي كانت أقوى من الذهنيات السابقة. ومع تاسيس الدولة القومية الإحادية والنمطية والتي تعتمد على قومية واحدة مع اصرارها على انصهار وأبادة القوميات الأخرى كما حصل في تركيا ، بلغ الفكر الاستشراقي مستوياتٍ اعلى وبسط نفوذه على المجال الثقافي والفني بالأضافة الى الإيدولوجي وتداعت عندها أواصر الأخلاق المجتمعية التقليدية وسادت القوالب الاخلاقية الأوربية الغربية منها الفردية المطلقة والجنسوية والدينوية والعلموية. لكن منذ النصف الثاني بدأت الاحتكارات الذهنية تضعف في المنطقة والعالم ولعل ثورة الشباب في عام 1968 في مرسيليا في فرنسا كانت خير من اسقط هيمنة الفكر الاستشراقي وبينت الخلل فيها وفتحت العديد من الثغرات فيه. وكذالك انهيار الاشتراكية المشيدة (التي كانت في الاتحاد السوفيتي وبعض من الدول) في عام 1990. حيث عندها أصيب الفكر الوضعي الليبرالي ومنها العلموية الاجتماعية بجروح غائرة وبتزعزج جدي، حيث ظهرت التيارات بما وراء الحداثة ومنها الحركات الفامينية والأيكولوجية والثقافية وقراءات فكرية يسارية جديدة والعيش المشترك. ويمكننا ملاحظة أنهيار الاحتكار الفكري مع اعوام السبعينات، حتى النظام العالمي ذهب لإيجاد بدائل، وقد قدم العديد من المفكرين مثل جوردون تشايلد، صموئيل كريمر، واندريه غوندر فرانك اسهامات كبيرة بالتنبيه والاشارة الى دور منطقتنا باعتباره مهد نظام المدينة المركزية أي مهد نظام السلطة والأبوية والتحكم. أن النظام العالمي المهيمن وفي القرن التاسع عشر وعن طريق مؤسسات الجامعة الموالية للعلمانية نجح في كسر شوكة السيادة الذهنية التي امسكت بها الكنيسة في العصور الوسطى ، وجعلت الإنجازات العلمية والفلسفية والفنية التي اسفر عنها عصر النهضة والاصلاح والتنوير ، حكرًا عليها بواسطة الأحتكار الذي طال الجامعات . لكن في أواخر القرن العشرين برزت الأزمة ووتبدّت الحلول ضمن هذه الحاكمية، حيث فقدت أو افقدوا الفلسفة أهميتها القديمة حيال التقنيات العلمية المختبرة، وتحول العلم الى تقنيات بحثية عديدة ، وخسر الفن مكانته وقيمته كمدرسة قائمة بذاتها وفي المحصلة تحول أغلبها الى أدوات منفعية بسيطة بيد النظام العالمي المهيمن وادواته الأقليمية من سلطات الدولة القوموية الأقليمية. وبذالك فقدت جميعًا مهاراتها ومهمتها الأساسية في البحث عن الحقيقة والتعبير عنها. إن الثورة الذهنية التي تخطت الاستشراقية وتخلصت من تأثير المذاهب المركزية واليمينية واليسارية الليبرالية في المنطقة تتسم بعظيم الأهمية. وينبغي العلم أنه يستحيل عيش أية ثورة مجتمعية مستدامة مالم تعش الثورة الذهنية. ويتعين التشديد على أهمية سكب ذالك في الممارسة العملية والسلوك اليومي ونمط الحياة عوضًا عن تكراره. فأثمن الأفكار هي تلك التي نصيبها من الحقيقة كبير جدًا. لن تعبر عن أي شيء، ما لم تطبق عمليًا. فحتى لو أتحدى العالم على فكرة خاطئة أو نصيبها من الحقيقة واهن فان الفكرة التي تكون نسبة الحقيقة فيها أعلى ، تستطيع أن تتحدى العالم وان تحرز النجاح في النهاية حتى لو دافع عنها شخص واحد وأمثلة أبراهيم وزرادشت وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلوات والسلام خير دليل.والذي يؤدي إلى ذالك هو قوة الحقائق الغالبة دومًا. قد تقمع الافكار المعبرة عن الحقيقة وقد تجازى ، ولكنها لن تهزم ابدًا. وما نستنبطه أن الحقائق الكبرى وماتنم عنه من إجراءات وممارسات ميدانية عظيمة قد تبدأ بكلمة واحدة فقط، لكن في حال الالتزام بالكلمة بصدق واخلاص وعدم التراجع عن توحيدها مع الحياة يغدو لا مفر من تعاظم الحقيقة وطرحها لنفسها وكأنها انتصار للحياة الحرة داخل المجتمع. فالمجتمعات ظواهر عطشى للحقيقة، كما التربة والماء ، وبإرواء ظمأها ذالك، تتعرف المجتمعات على الحياة الحرة والديمقراطية كما التربة المزدهرة وقد استطاعت القبائل البسيطة في شبه الجزيرة العربية من دك دعائم ثلاثة امبراطورات عملاقة حين أمتلكت الحقائق الكبرى كما يؤكد ذالك مافعله كاوا الحداد ضد امبراطورية الضحاك عام 612ق م. تستطيع منطقتنا من من انجاز ثورتها الذهنية المنسجمة مع أسسه التاريخية والثقافية كبديل للذهنيات المهيمنة الغربية وكبديل لطرازهم في الفن والحياة فحالة الازمة في المنطقة والعالم هي حبلى بكل الاحتمالات.ولسنا مجبورين على تقليد الغرب ومحاكاتهم في هذا المضمار إلى جانب مشاطرتهم المكاسب العلمية إلا إن المهم هو عرض الإبداعية المكانية والتاريخية وأنجاز الثورة الذاتية. ومن حسن حظ ثورة أخوة الشعوب والامة الديمقراطية التي ينجزها العرب و الكرد وبقية المكونات معًا و التي بدت ملامحمها واضحة في شمال وشرق سوريا من خلال المشروع الوطني السوري مشروع مجلس سوريا الديمقراطية أو التي يمثلها حزب الشعوب الديمقراطي كمظلة جامعة لكل القوى الديمقراطية والمجتمعية ومن كل الاثنيات والمذاهب في تركيا أنها تتم في وقت يحث شعوب المنطقة على الحلول لقضاياها وفي وقت يتعرض النظام المهيمن الى الازمة في ذهنيتها وطراز حياتها فبمقدور هذه الثورة الاستفادة من حسن طالعها وباستطاعتها إحياء الفرد الديمقراطي التشاركي الحر الذي سيشكل بالتوازي مع تحويل البناء المتداخل مع الامة الديمقراطية(الذين يمتلكون ارادة و ذهنية مشتركة) والاقتصاد الكومونالي المجتمعي والصناعة والتقانة الايكولوجية الى طراز حياة اجتماعية مقابل الفردية الوحشية التي تلهث وراء الربح الأعظمي والدولة القومية التي تقف بالضد من المجتمع وخواصه التنوعية وتمدد الهيمنة العالمية وتكرسها ، وبذالك يستطيعوا ان يقدموا الاسهامات المهمة للثقافة التاريخية الشرق الاوسطية المتميزة دائمًا بالتكامل والكونية رغم تأمر كل ماحصل لها لإخراجها من كينونتها ورغم سعي أردوغان متعهد مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي صرح بذالك عام 2006م لخلق الفوضى وعدم الاستقرار والفتن بين شعوب المنطقة لخلق الارضية لذالك المشاريع ولاستمرار الهيمنة والتبيعية للنظام المهيمن .