بعيون تكسوها الحيرة وبعقل شتته التفكير خطى "محمود عبد الله علي"، ببطء شديد ينم عن هموم تكبر عمره نحو أبواب مدرسته القديمة بالمعادي، ورأسه أسئلة لا يستطيع ذهنه تجاوزها، متعجبًا من أي أسرة ينتمي منذ أن أدركت عينه الحياة، وما هي هويته الحقيقية، سابحًا في بحور مداركه بتلك الأسئلة. بدأت قصة "محمود" الشاب العشريني والطالب الجامعي، حين أرسل إلى دار الرعاية "أحباب الله" بالمعادي، منذ إن كان عمره شهرًا واحدا، ليبدأ مسيرته مع الوحدة صاحبته لسنوات، لتضربه أمواج الألم والإحباط في كتمان، مفتقدًا أسرته التي يجهل عنها كل شيء يمكن أن تربطه بهم. وفور وصول "محمود" إلى دار الرعاية التي تبنته حتى سن ال 16، بين جدران غرفته التي حاوطها دفئ وحنان الرعاية، تم تسجيله باسم وهمي ليكون له الحق في العيش حتى بهوية شخصية لا تشبه، ليبدأ مشواره في الحياة ويخوض غمار دراسته التي أشعرته بافتقاده الجو الأسري الذي طالما حلم بوجوده. أصعب لحظات واجهها محمود كانت في يوم تخرجه من المدرسة التي عاش بها طفولته، حتى وصوله إلى نهاية المرحلة الإعدادية، حيث تجمعت الأسر لتشارك أبناءها فرحة تخرجهم من تلك المرحلة، بينما ظل محمود وحيدًا ينظر إلى عوائل أصدقائه الطلاب في وجع لا تبوح به ملامحه، مخفيًا دموعه في مواجهة هذا الموقف العصيب، بحسب وصفه ل"صدى البلد". وثار بداخل الشاب العشرين خلال الشهور الماضية، دافع البحث عن أسرته التي ظل يفكر بها ويرسم بمخيلته منذ نعومة أظافره، الأجواء التي يمكن أن يعيشها في حال عثوره على عائلته المجهولة، بعد أن تركته وهو في شهر الأول بدار الرعاية. "انا اسمى محمود عبد الله علي"، عمرى 24 سنة كبرت لاقيت نفسى فى دار رعاية أيتام "أحباب الله "، وكل اللى أعرفه عن نفسي أن تم العثور عليا وأنا لسه رضيع فى عمر أسبوع أو يمكن أكبر حاجة بسيطة تقريبا بتاريخ 4/1995 وتم تحويلى للدار عن طريق قسم الأزبكية وده اللى أنا فهمته لأن شهادة ميلادى تابعة لنفس القسم، حولونى لدار فى المعادى ودى اللى قضيت كل عمري فيها من وقتها لغاية دلوقتى" كلمات دونها "عبدلله" في منشور صال وجال مواقع التواصل الاجتماعي كخطوة في العثور على الأسرة، التي يشتاق إلى رؤيتها. لم يتوقع "محمود" أن يكون رجع الصدى لمنشوره كبيرًا وتواصلت العديد من العائلات معه لاعتقادهم أنه ينتسب إلى أسرتهم، وتملكه بصيص من الأمل، حين استشعر أنه تمكن من الوصول إلى أسرته، بعد أن أقرت إحدى العائلات بأنه من الممكن أن يكون هو طفلها المفقود، ولكن خاب أمل "محمود"، بعد أن عكس تحليل الحمض النووي الخاص به تلك التوقعات، حيث لم ينطبق مع تلك الأسرة التي فقدت طفلها في ظروف مشابهة للشاب العشريني. لا يكترث "محمود"، إلى طبيعة عائلته المجهولة، حتى إذا كانت فقيرة أو غنية أو من ديانة أخرى تختلف عن ديانته التي نشأ عليها، كل ما يهمه هو العثور على أسرته وتقبلها كما هي، فهو يعي أن اختلاف الطبائع، أمر طبيعي بينه وبين عائلته التي لم يجدها بعد، وذلك لاختلاف تربيته وتنشئته بدار الرعاية التي يكن لها كل التقدير والاحترام. ورغم الانكسار الذي يروج بروح "محمود" إلا أنه يشعر بالاعتزاز والفخر لذاته، حيث لم تجرفه الأيام وشعوره بأنه لا ينتمي إلى أي أسرة إلى الانحراف والفشل، فمنذ وصوله إلى المرحلة الثانوية ظل يعمل على قدمًا وساق ليكفي احتياجاته الشخصية وبعد انتقاله من الدار والعيش بمنزله التي استأجرته الدار لينتقل في العيش به، ظل يكافح حتى وصل إلى آخر مرحلة جامعية مستعدًا لتخرجه. وصف "محمود" ل"صدى البلد"، حالته بعد اتخاذه خطوة العثور على أسرته قائلًا "أنا عندي إصرار أني القي أسرتي زي ما كان ليه أصدقاء في الدار عرفوا يوصلوا لأهاليهم، أنا متأكد إن لو أسرتي وصلتلي هتبقى فخورة بيه زي ما أنا فخور بنفسي، لسه عندي طموحات وعاوز أنجح في حياتي وبقى شخص ليه وضع في المجتمع".