* "بلفور" كان معاديا للصهيونية.. وواجه الهجرة اليهودية إلى بريطانيا * عبارات غامضة في وعد "بلفور" لخداع الشعوب العربية * حاييم وايزمان أول رئيس لإسرائيل كان ملحدا لا يؤمن بدين * بريطانيا انحازت لليهود لاعتبارات إمبريالية بحتة * القوى الاستعمارية راهنت على دور لليهود في تعزيز النفوذ الغربي بالشرق الأوسط وعد بلفور أو تصريح بلفور.. هو الاسم الشائع في الرسالة التي وجهها آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، سليل الفرع البريطاني من عائلة روتشيلد اليهودية الفاحشة الثراء في بريطانيا وفرنسا والمانيا.. يشير "بلفور" في تلك الرسالة التي لم يزد عدد الكلمات فيها عن 130 كلمة، إلى تأييد الحكومة البريطانية فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. حين صدر الوعد قبل 99 عاما، كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان. وأرسلت الرسالة قبل شهر من احتلال الجيش البريطاني فلسطين، قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما تأكدت هزيمة القوات التركية أمام بريطانيا، فقد كانت فلسطين تابعة للدولة العثمانية، التي دخلت الحرب إلى جانب المانيا في الحرب العالمية الأولى. صيغة الوعد واضحة تمامًا أنها تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي سيضم "الشعب اليهودي"، أي أنه اعترف باليهود لا كلاجئين أو مضطهدين مساكين، كما أن الهدف من الوعد ليس هدفًا خيريًا لكنه هدف سياسي (استعماري). كما أن هذه الحكومة التي أصدرت الوعد لن تكتفي بالأمنيات وإنما سوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. تبدأ بعد ذلك الديباجات التي تهدف إلى التغطية، فالوعد لن يضر بمصالح الجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين ولا بمصالح الجماعات اليهودية التي لا تود المساهمة في المشروع الصهيوني، بل تود الاستمرار في التمتع بما حققته من اندماج وحراك اجتماعي. وسنلاحظ أن الديباجات تتسم بكثير من الغموض إذ أن الوعد لم يتحدث عن كيفية ضمان هذه الحقوق. الأسباب التي يوردها بعض المؤرخين (الصهاينة أو المتعاطفون مع الصهيونية) لتفسير إصدار بريطانيا لوعد بلفور. فهناك نظرية مفادها أن بلفور قد صدر في موقفه هذا عن إحساس عميق بالشفقة تجاه اليهود بسبب ما عانوه من اضطهاد، وبأن الوقت قد حان لأن تقوم الحضارة المسيحية بعمل شيء لليهود، ولذلك فإنه كان يرى أن إنشاء دولة صهيونية هو أحد أعمال التعويض التاريخية. لكن من الثابت تاريخيًا أن بلفور كان معاديًا لليهود، وأنه حينما تولى رئاسة الوزارة البريطانية بين عامي 1903 و1905 هاجم اليهود المهاجرين إلى إنجلترا لرفضهم الاندماج مع السكان واستصدر تشريعات تحد من الهجرة اليهودية لخشيته من الشر الأكيد الذي قد يلحق ببلاده. وكان لويد جورج رئيس الوزراء لا يقل كرهًا لأعضاء الجماعات اليهودية عن بلفور، تمامًا مثل تشامبرلين قبلهما، والذي كان وراء الوعد البلفوري الخاص بشرق أفريقيا. وينطبق الوضع نفسه على الشخصيات الأساسية الأخرى وراء الوعد مثل جورج ميلنر وإيان سمطس، وكلها شخصيات لعبت دورًا أساسيًا في التشكيل الاستعماري الغربي. ويرى مؤرخون أن إنجلترا أصدرت الوعد تعبيرًا عن اعترافها بالجميل لوايزمان لاختراعه مادة الأسيتون المحرقة أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو تفسير لا يستحق الذكر إلا لأنه ورد في بعض الدراسات الصهيونية والدراسات العربية المتأثرة بها. ويبدو أن وايزمان نفسه قد تقبَّل هذا التفسير بعض الوقت. ولذا حينما توترت العلاقات بين إنجلترا والمستوطنين الصهاينة في الأربعينيات، وضع وايزمان مواهبه العلمية تحت تصرف الإمبراطورية، متصورًا أن بإمكانه ممارسة بعض التأثير عليها. وبطبيعة الحال، لم يُوفَّق وايزمان في مساعيه. وفيما يتصل بجهوده الدبلوماسية نفسها أثناء الحرب، يمكن القول إنه كان شخصية محدودة الذكاء، فلم يدرك الأبعاد الإمبريالية للمشروع الصهيوني أو لوحشية المشروع الإمبريالي، وغير مدرك حتى لدقائق السياسة البريطانية. وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان وايزمان وصل لتوه إلى سويسرا في إجازة صيفية. ثم اضطر إلى العودة إلى بريطانيا، فطلب منه لويد جورج أن يقابل هربرت صمويل، فعبَّر عن خوفه من أن يكون صمويل مثل سائر يهود إنجلترا معاديًا للصهيونية، ولكنه فوجئ بأن صمويل هذا صهيوني هو الآخر. وحينما تقدَّم بطلباته الصهيونية، أخبره صمويل بأن طلباته هذه متواضعة أكثر من اللازم وأن عليه أن يفكر على مستوى أكبر من ذلك. ثم أخبره صمويل بأن أعضاء الوزارة يفكرون في أهداف صهيونية، ودوَّن وايزمان بعد ذلك العبارة التالية: "لو كنت يهوديًا متدينًا لظننت أن عودة الماشيَّح قد دنت". وأظهر وايزمان شيئًا من الذكاء باكتشافه بريطانيا باعتبارها القوة الإمبريالية الصاعدة التي يمكنها أن ترعى المشروع الصهيوني. ولعل الأمر لا يدل على ذكاء بقدر ما ينبع من وجوده في إنجلترا بالفعل وتَحرُّكه داخل إطار المصالح البريطانية. وهناك نظرية تذهب إلى أن الضغط الصهيوني (واليهودي) العام هو الذي أدَّى إلى صدور وعد بلفور، ولكن من المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا كتلة بشرية ضخمة في بلاد غرب أوروبا، ولم يكونوا من الشعوب المهمة التي كان على القوى العظمى أن تساعدها أو تعاديها، بل كان من الممكن تجاهلهم. ويمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا مصدر ضيق وحسب، ولم يكونوا قط مصدر تهديد. أما الصهاينة فلم تكُن لهم أية قوة عسكرية أو سياسية أو حتى مالية (فأثرياء اليهود كانوا ضد الحركة الصهيونية). ولم يكن هناك مفر من أن تكون المطالب الصهيونية على هيئة طلب لخدمة مصالح إحدى الدول العظمى الإمبريالية.