كتب "جابر عصفور" وزير الثقافة الأسبق - أحد أصحاب الفكر المنفتح كما يدعي - مقالًا عَنْونه ب"كُلنا إسلام بحيري"، وقد زعم في كلماته أن "البحيري" من المفكرين الكبار، ثم دلل بحديث يعزوه للإمام "البخاري" يقول عنه رواه البخاري: "إذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد". ولقد نقبت في الصحيحين فلم أقف على هذا الحديث مطلقًا، والحديث الذي يقصده كاتب المقال يتعلق بالحاكم وليس العالم، عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» رواه البخاري 9/ 108 حديث رقم 7352، ومسلم في صحيحه 2/1342 حديث رقم 1716. والحق أَن فِي الْحَدِيثِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، قَالُوا: فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ، فَإِنْ حَكَمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ بَلْ هُوَ آثِمٌ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ أَمْ لَا; لِأَنَّ إِصَابَتَهُ اتِّفَاقِيَّةً لَيْسَتْ صَادِرَةً عَنْ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لَا، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ كُلُّهَا، وَلَا يُعْذَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. ثم قال الكاتب مستشهدًا بالمقولة الشهيرة للإمام "الشافعي": "رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ" - لكنه لم يعلم أن هذه قاعدة أصولية - وهي تُستَخدمُ فيما يَحتمِلُّ الظنَّ مِن المسائل، وذلك بعد أن يجتهد الفقيه في البحث في المسألة والنظر في جميع الآراء الأخرى وأدلتها ومِن ثَمّ لا يرى إلا رأيًا واحدًا أقربُ للصواب. ثم استهواه عقله فأخذ يُشرقُ ويُغربُ بلا بينة رافعًا صوته المقالي بعبارات رددها من كان قبله فحواها الطعن في الأزهر ورجاله، وقد قال نصًا: "أما الأزهريون فقد اكتفوا بما عليه أكثرهم وكبار مشايخهم من السلفية، فعادوا التيارات العقلانية، وناصبوا ميراث محمد عبده الاعتزالي العداء، واستبدل شيخهم الحالي بالمعتزلة الأشعرية الماتريدية التي هي محاولة توفيقية"، والسؤال هنا هل كان منهج "الشيخ /محمد عبده" اعتزاليًا؟ والسؤال الثاني: هل الأزهر مشايخه سلفية؟ ثم استشهد بحالات كثيرة قُوبلت بالعداء من قِبْلِ الأزهر الشريف وذكر منهم "نصر حامد أبو زيد" و"إسلام البحيري" و"القمني" و"خالد منتصر" وحالته "هو". وللمصداقية أن من طالع كلام صاحب المقال يجد تخبطًا لا يليق برجل تقلد منصبًا رفيعًا، فإن فكرة التجديد لا تطرأ بحال من الأحوال على فِكر هذه الشخصيات، ولقد توراث "نصر حامد" أفكار من سبقه؛ ولقد اعتدت في ردودي أن أستشهد بكلام أصحاب الدعاوى من باب "البينة على من ادعى" فأما البينة تلزمه هو، لكنني سأشاركه البينة وأُدللُ من كتب أصحاب الفكر الحر، الذين يريدون تطويرًا منهجيًا يمحو التراث ويطعن في الثوابت. 1 طعن "نصر حامد أبو زيد" في القرآن، ذكر أن القرآن الكريم ليس كتابًا مُقدسًا، وإنم نُقل إلينا شفاهة، وهذا نص كلامه: "الفكر الرجعي في تيار الثقافة العربية الإسلامية هو الذي يُحوِّل النص (أي القرآن) إلى شيء له قداسته، بالقول: إِنَّه نص خاص، وخصوصيته نابعةٌ من قداسته وألوهية مصدره، بينما حقيقة النص وجوهره أنَّه مُنتجٌ ثقافيٌّ تشكلَّ في الواقع والثقافة خلال فترةٍ تزيد على العشرين عامًا" (مفهوم النص نصر حامد ص14). 2 استحلاله للخمر، حيث زعم "نصر حامد" أن الخمر ليست محرمة ولكن مأمور باجتنابها فقط، فقال: "الخمر ليست عادة سلوكية، ولكنها تجربة حياة، بها تتحول الحياة إلى ما تُشبه النشوة الدائمة" (إشكاليات القراءة وآليات التأويل نصر حامد ص 244). 3 ظاهرة الوحي تعود في أصلها لمعرفة العرب بظاهرتي الكهانة والشعر - (مفهوم النص نصر حامد - ص 34). 4 استخدامه "الهرمينوطيقا الجدلية" وقد ذكر مفاد هذه النظرية فقال: "إن التعامل مع النصوص يكون على أساس أن معطياتها اللغوية عبارة عن رموز شفافة – تشف عما تحتها - أو زائفة – يجب إزالتها والتخلص منها. ثم أراد "نصر" أن يشرح نظريته الجديدة، فقال: "يركز "بول ريكور" اهتمامه على تفسير الرموز، وهو يفرق بين طريقتين للتعامل مع الرموز، الأولى: هي التعامل مع الرمز باعتبار نافذة تطل على عالم من المعنى، والرمز في هذه الحالة وسيط شفاف عما وراءه (!) هذه الطريقة يمثلها "بولتمان" في تحطيمه للأسطورة الدينية في العهد القديم والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير". وهذه الطريقة يطلق عليها "ريكور""Dymythologizing" والطريقة الثانية يمثلها كل من "فرويد" و"ماركس" و"نيتشه"، وهي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به، بل يجب إزالتها وصولًا إلى المعنى المختبئ وراءها Dymystification إن الرمز في هذه الحالة لا يشف عن المعنى، بل يخفيه ويطرح بدلًا منه معنى زائفًا، ومهمة التفسير هي إزالة المعنى الزائف السطحي وصولاً إلى المعنى الصحيح. لقد شككنا فرويد في الوعي باعتباره مستوى سطحيًا يخفي وراءه اللاوعي، وفسر كل من ماركس ونيتشه الحقيقة الظاهرة باعتبارها زائفة ووضعا نسقًا من الفكر يقضي عليها ويكشف زيفها، وإذا كان تفسير الرموز عند بولتمان أو فرويد أو نيتشه أو ماركس ينصب على الرموز بمعناها العام اللغوي والاجتماعي، فإن تعريف ريكور للرمز معبرًا عنه باللغة، ومن ثم ينصب التفسير عنده على تفسير الرموز في النصوص اللغوية، وهذه هي غاية الهرمنيوطيقا "( إشكاليات القراءة وآليات التأويل نصر حامد - ص44 45). اعتمد "نصر" على نظرية "نيتشه" الذي قال "إن الله قد مات"، وفلسفة ماركس الذي جزم بقوله "إن الحياة مادة ولا إله". هذا فكر أصحاب التجديد المعاصر على حد زعمهم فكر يقضي على إسلامنا ويطعن في أزهرنا - فمن حمى هذا الوسطية إذًا؟ ومن حملها للناس إلا الأزهر؟؟؟