ترجع فكرة المستبد العادل إلى الإمام محمد عبده حين نشر مقالاً في نهاية القرن التاسع عشر بعنوان "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل"، أوضح فيه أن الشرق لم يعدم وجود مستبد من أهله، عادل في قومه، يتمكن بالعدل أن يصنع في 15 سنة ما لا يصنع العقل في 15 قرنا. والفكرة المطروحة هى دعوة للاستبداد في الحكم، وهى الفكرة التي تعارض القرآن الكريم والذي نجد فيه مثالاً مذموماً للطاغية المستبد وهو فرعون، والقرآن لم يذكر الاسم الحقيقي لفرعون بل اكتفى باللقب كرمز يعبر عن ظاهرة الاستبداد السياسي. فقد ورد ذكر فرعون كرمز للاستبداد السياسي 74 مرة في القرآن، مما يدل على أهمية الموضوع، وعلى أهمية أن نفهم أن القصص القرآني لم يأت لمجرد سرد الأحداث التاريخية، فالقصص القرآني يخبرنا عن أحداث متكررة للعبرة منها: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ..) يوسف 111. قال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) الزخرف 51، ونرى من الآية أن فرعون هو رأس السُلطة ويحمل صفتي الاستبداد والبطش وهو لقب يطلق على ممارسي الاستبداد السياسي بصرف النظر عن أسمائهم الحقيقية. إن فرعون لقب خاص للحاكم المستبد والذي يدعي الربوبية نسبة إلى الرب صاحب النعم، ويدعي الألوهية نسبة إلى الإله المعبود، أما ادعاء الربوبية كما في قوله تعالى على لسان فرعون: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) النازعات 24، وأما ادعاء الإلوهية كما في قوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي..) القصص 38، فالحاكم المستبد يبدأ بالادعاء بأن كل البلد ملكه باعتباره الرب والإله، ثم يتصرف على أن الناس ملكه أيضاً. هاتان الصفتان من صفات الحكم الاستبدادي ما تزالان حتى يومنا هذا، فليس من الضروري أن يقف المستبد ويعلن صراحة أنه رب وإله البلد، وإنما يعرف ذلك من صلاحياته ومن طريقة حكمه، فالناس الذين يعيشون تحت حكمه تكون لهم صفة الأشياء، فالمجتمع على الهامش بما فيه من مؤسسات بسبب استسلامهم للاستبداد، لذا تم وصفهم بالفسق في ظل فرعون بقوله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِين) الزخرف 54. لقد أخبرنا تعالى عن حال هؤلاء المستسلمين للقهر عند الموت: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء 97، فلا يوجد مبرر للخضوع للاستبدادا ولذلك أصبح مصيرهم إلى النار. أما بقية الناس فقد أطلق القرآن عليهم المستضعفون في الأرض: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص 6-5، وهؤلاء المستضعفون قادرون على مواجهة فرعون وهامان. ولذلك فالحساب للناس في الآخرة سيكون بشكل فردي وبشكل جماعي أيضاً: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية28 ، فالحساب يكون على السلوك الفردي في اختيار الإيمان وأداء العبادات والعمل بمكارم الأخلاق أو العكس، وعلى السلوك الجماعي من تبني المواقف الإيجابية أو السلبية، وحساب الفرد أمام الله تعالى يتوقف على اختياراته في السلوك الفردي والمواقف الجماعية.