لا يستطيع الدارس للسياسة والإعلام الدولى أن يتغافل عن أن فكرة الكيانات الموازية لمؤسسات الدولة هى السلاح الأكبر والأهم فى منظومة التدمير الذاتى التى صاحبت مسيرة "الربيع العربى"، وقد كان هذا هو السر فى تكوين وصعود تيار الإسلام السياسى الذى كان يجرى الترتيب له على قدم وساق كى يكون بديلا لكل الأنظمة العربية التى سقطت فى ثورات شعبية، فى ظل غياب تام لكل البدائل والتيارات السياسية الأخرى التى كان لا يسمح لها بالعمل السياسى فى معظم البلدان العربية وتقوقعت داخل مقراتها لسنوات عزلتها عن هموم الوطن والمواطن. لهذا كانت حتمية قرار "فض اعتصامى رابعة والنهضة" بأى ثمن وبأى طريقة يوم 14 أغسطس 2013 والذى جاء متأخرا كثيرا لأننا و حتى الآن مازلنا ندفع ثمن عدم الفض يومى 3 و 4 يونيو 2013؛ حيث كانت استراتيجية واشنطن والأتحاد الأوربى وتركيا وقطر تعمل على إطالة أمد الإعتصامين قدر المستطاع من أجل خلق واقع ضاغط على الدولة المصرية ومؤسساتها للقبول بإعادة دمج الأخوان فى الحياة السياسية والوصول إلى صيغة تعيدهم إلى دوائر الحكم بأى وسيلة. وقد كانت فكرة الكيانات الموازية واضحة فى الإعتصامين حين رفض المعتصمين فكرة وجود رئيس إنتقالى وأعلنوا تمسكهم برئيسهم محمد مرسى ورفضوا الدعوة إلى كتابة دستور جديد وتمسكوا بدستورهم ورفضوا وجود أى صيغة تشريعية غير مجلس الشورى الخاص بهم والذى عقد جلساته فى قاعات مسجد رابعة العدوية وأسسوا لإعلام بديل صحافة وتليفزيون ورفضوا كل مؤسسات الدولة المصرية جيش وقضاء وإعلام وشرطة. والحقيقة أن تلك العقيدة لخلق كيانات موازية راسخة لدى المعتقدين فى الفكر الأخوانى الذى يكفر كل المؤسسات القائمة منذ أرسى قواعد ذلك الفكر امامهم سيد قطب وكان سببا فى صدامهم الدائم مع كل مؤسسات الدولة قبل أن يسقطهم الشعب فى 30 يوينو حيث كان الأخوان لا ينظرون إلى المؤسسات القائمة على أنها مؤسسات حكمهم ومشروعهم السياسى فكان التفكير فى جيش بديل مداده حماس وجماعات التكفير المسلحة وميليشيات الشاطر والبلتاجى السلفية والأخوانية وشرطة بديلة دعا إلى تأسيسها حازم أبو إسماعيل بآتفاق مع خيرت الشاطر وعاصم عبد الماجد وطارق الزمر؛ وقضاء بديل بعد أن تم حصار كل مؤسسات القضاء فى مصر ومحاربتها والذى بدأ بحصار مجلس الدولة والمحكمة الدستورية ومكتب النائب العام؛ وإعلام وصحافة بديلة بدأت بإتهام المرشد لجميع إعلامى وصحفى مصر بأنهم "سحرة فرعون" وكان لديهم خطط لأخونة كل الفضائيات والصحف. لقد بدأت عملية الهجوم على دار الحرس الجمهورى بدعوى تحرير الرئيس المخلوع محمد مرسى على أمل خروجه ولو لدقائق يقف خلالها فوق منصة رابعة ليعلن عزل الفريق أول عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع ورئيس أركانه الفريق صدقى صبحى حينذاك كى يشق صف الجيش العائق الأكبر الذى يقف حائلا دون إبتلاع الأخوان لمصر وشعبها؛ الهدف كان خلق فتنة وولاءات موازية تسقط تلك المؤسسة من داخلها وإثارة الفتنة بين جيوشها وفرقها وألويتها وكتائبها. و قد جاءات زيارة كاثرين اشتون منسقة السياسة الخارجية الأوربية وغيرها من الوفود الغربية التى زارت مصر و مرسى والتقت الساسة المصريين كى تضغط فى هذا الأتجاه فى بداية الأمر قبل تلقى رفضا عنيفا من مؤسسات الحكم التى أعقبت ثورة 30 يونيو إلا من شخص نائب رئيس الجمهورية للشئون الخارجية حينذاك الدكتور محمد البرادعى الذى كان له دور كبير فى تدويل الأزمة وسمح للعديد من الأطراف بالتدخل فيها وكان له دور كبير فى إطالة أمد الإعتصامين فى محاولة فرض أمر واقع و ضاغط للسماح بإعادة دمج الأخوان تحت راية الشعارات النبيلة التى تدعو للتعايش السلمى والأحتواء من أجل مصلحة مصر. بل الأدهى من هذا أن الدكتور البرادعى سعى لعقد صفقة مع حزب النور بأن يبارك الحزب توليه منصب رئيس الوزراء على أن يضمن لهم حصول أحد أعضاءهم على منصب نائب الرئيس بداعى أنه القادر على تحجيم دور الجيش فى الحياة السياسية؛ حدث ذلك يوم 5 يونيو وأعلنه صلاح عبد المعبود القيادى بحزب النور و قد تم العرض من خلال وسطاء (الدكتور عبد الجليل مصطفى ونقيب الأطباء خيرى عبد الدايم) ولم ينفى الدكتور البرادعى أو الوسطاء أو أى من أنصاره تلك التصريحات؛ أى أنه - أى البرادعى- كان يحاول أن يوجه الطعنة مبكرا بعد يومين من إعلان 3 يوليو؛ و حمدا لله أن استقالته جاءت وهو فى منصب نائب الرئيس وليس رئيس وزراء؛ ومازلت فى انتظار تفسير منطقى من اتباعه عن مواقف الرجل الذى زعم محاربته لحكم الأخوان و بعد الثورة دعم جهود تدويل القضية من أجل إدماجهم فى الحياة السياسية و عمل فى الكواليس على عقد صفقة مع حزب النور السلفى ويدخلهم القصر الجمهورى على منصب نائب الرئيس. مصلحة مصر كانت فى فض الإعتصامين بأى ثمن والقريب من الدوائر السياسية يدرك مدى الجهد و الضغوط التى كانت تمارس على قادة الإعتصام كى يطول لأطول فترة ممكنة من أجل خلق هذا الواقع وتدويله وكانت الدوحةوواشنطن وأنقرة وبروكسل يراهنون على أن خلق كيانات بديلة وأمر واقع موازى سيفرض أساليب تفاوض و ضغط لا حصر لها تعيد الأمور إلى نصابها وتدفع بالأخوان مجددا إلى قمة السلطة. قرار الفض سليم من الناحية السياسية والأمنية حتى وإن صاحبته تجاوزات يجب أن تخضع للتحقيق بعد صدور قرار لجنة تقضى الحقائق؛ ولكن ما يعنينى هنا قرار الدولة المصرية الذى كان يجب أن يصدر بغض النظر عن تقديرات الخسائر البشرية والمادية؛ فعندما أتخذ الرئيس الراحل أنور السادات قرار العبور عام 1973 كانت تقديرات الخسائر فى الأرواح بين الجنود الذين يدافعون عن حق وعن وطن كبير بكل المقاييس ولكنه كان قرار حتمى لتحرير الأرض وحماية الوطن؛ فهل كان يجب محاكمة السادات بتهمة المسئولية عن تلك الأراوح الطاهرة التى سقطت على أرض سيناء؟ وبنفس المعايير والمقاييس هل نحاكم من أتخذ قرار فض رابعة والنهضة و ترحيل أهالى رفح ومقتل الجنود على أيدى الإرهابيين فى معركة أتخذ قرار بخوضها؟ قرار الدولة ورجالها يخضع دائما لتقديرات وسيناريوهات ومعلومات غالبا ما تدور فى الكواليس و القليل الذى نعرفه عن تلك الكواليس بحكم القرب من بعض دوائر صنع القرار يحتم على من أتخذ تلك القرارات أن يتخذها وبصرامة وأن لا تخضع تلك القرارات لمزايدات بعيدة كل البعد عن المسئولية عن أمن وسلامة وطن وشعب ومؤسسات؛ لذا استغرب مواقف العديد من السياسيين والصحفيين الذين بحكم عملهم يعرفون الكثير من تلك الكواليس ويزايدون على قرار فض الإعتصامين بحجة حرمة الدم وهذا فى حد ذاته أمر محمود ومقبول ولا يوجد مصرى وطنى لا يقدر حرمة دم المصريين ولكن هناك دائما ثمن يدفعه المواطنون بحكم مواقعهم ومواقفهم فى لحظة الأزمة فداء لهذا الوطن وأمنه وسلامته وقد اختار الأخوان وأنصارهم مواجهة الدولة وإسقاط مؤسساتها وإنتهاك قوانينها فدفع البسطاء منهم الثمن وفرت القيادات إلى فنادق الدوحة وانقرة ومن فشل منهم فى الهروب يلقى مصيره خلف القضبان. و قد رأينا كيف أن وجود كيانات موازية أو بديلة بدواعى دينية أو سياسية أو طائفية تسببت فى التدمير الذاتى لمعظم دول المنطقة فكان نموذج حماس التى أسست لتكون منافسة وموازية لكيان فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وتشق الصف الفلسطينى؛ وكذلك جماعة الحوثيين فى اليمن التى تسعى للسلطة على حساب كل مؤسسات الدولة اليمنية؛ وحزب الله فى لبنان الذى تحول من المقاومة إلى كيان موازى لكيانات الدولة اللبنانية ومتخطيا لدورها فى الصراعات الإقليمية؛ و "المعارضة" المسلحة فى سوريا التى أنضوى تحت لوائها الكثير من الكيانات التى عملت على تدمير مكونات الدولة السورية؛ والعراق بكل التنوع فى شكل كيانات طائفية ودينية وعرقية وسياسية؛ وليبيا فى شكل كيانات مسلحة وقبلية تتصارع على السلطة والنفط والنفوذ و تقاوم جميعها عودة كيانات الدولة المركزية القوية المسيطرة إلى أخره من استخدم لكل عناصر التدمير الذاتى كل مجتمع والعوامل المساعدة المتمثلة فى القهر والفقر والجهل والفراغ الفكرى والسياسى وغياب البدائل والرؤى والمشاريع السياسية.