عام ونصف العام امضيتها طالبا فى الماجستير بمعهد الإعلام الدولى فى جامعة ليدز البريطانية عام 2001؛ و من حسن حظى أنه كان يشرف على رسالتى مدير المعهد البروفيسور فيليب تايلور العالم والعلامة والأسطورة فى مجال الإعلام الدولى واستخدام الإعلام فى إدارة العلاقات والأزمات الدولية... اتذكر اليوم الذى سألنى فيه البقاء والاستمرار فى الجامعة والانتهاء من الدكتوراه والتدريس خلفا له فى المعهد وكان مبرره أن هذا العلم يحتاج إلى باحث من منطقة الشرق الأوسط يكمل مسيرته -اى البروفيسور تايلور- وعندما سألته لماذا؟ قال لى رحمة الله عليه بأن أكبر مختبر لهذا العلم وأدواته سيتم تجربته وتنفيذه فى منطقة الشرق الأوسط التى ستشهد تجربة كاملة للجيل الرابع والخامس من الحروب.. معهد الإعلام الدولى فى ليدز كان ومازال يمتلك أكبر أرشيف الكترونى عن حرب الخليج الثانية وقام البروفيسور تايلور وفريق بحثى كبير بدراستها وتحليلها جنبا إلى جنب مع الحروب على الصومال والبوسنة وكوسوفو وكان يرى أن الحروب القادمة حروب معلومات وحروب تستخدم فيها الشائعات والدعاية السوداء ووسائل الحرب النفسية وعدد من الأدوات مثل الدبلوماسية الثقافية والدبلوماسية العامة وبأن أجهزة المخابرات وأجهزة جمع المعلومات سيكون لها اليد العليا فى إدارة تلك الحروب على أن تكون الجيوش والدبلوماسيين والساسة والنخب والشعوب أدوات تحركها خطط توضع بواسطة تلك الأجهزة. جلسات طويلة تلك التى جمعتنى بالبروفيسور تايلور عندما أتذكر مضامينها أضحك من جهل لمن يروج للجيل الرابع للحروب فى مصر ودول الربيع العربى حيث أن نجاح حرب الجيل الرابع لا يحتاج إلى عملاء وخونة بقدر احتياجه لتوظيف مواقف وردود فعل منطقية وطبيعية ومتسقة مع ذاتها على اعتبار أن وسائل التدمير الذاتى لشعوب المنطقة ومن بينها مصر كانت متواجدة نتيجة لتراكم الفساد والجهل والفقر والعنف والظلم الإجتماعى وضيق الآفق السياسى وتشرذم النخبة وتبعيتها للسلطة لسنوات طويلة... وكان كل ما يحتاجه من يدير تلك المعركة عدد قليل جدا من العملاء وكثير من المواقف وردود الأفعال الطبيعية المتسقة مع تاريخها وقناعاتها لإدارة تلك المعركة بنجاح منقطع النظير بحيث يصل فى نهاية الأمر إلى تحقيق هدفه بصعود تيار الإسلام السياسى فى معظم دول الربيع العربى قبل أن تتصدى مصر فى 30 يونيو ومن بعدها تونس منذ أيام لهذا الصعود الرهيب.. استغلال فساد الأنظمة وغياب النخب السياسية البديلة كان أهم سلاح للذى يدير حربا من هذا النوع فى مصر والمنطقة؛ لأن المتابع لما يدور فى مراكز الأبحاث الغربية وخاصة الأمريكية التى تدعم القرارات فى بلادها يرصد أنه منذ ربع قرن تقريبا يدركون أن البديل للأنظمة فى المنطقة من أمثال مبارك وبن على والقذافى وصالح والأسد نظم ذات خلفية إسلامية تسيطر عليها جماعة الإخوان المسلمين التى تقدم نفسها لتلك الدوائر على أنها تمثل الإسلام الوسطى وكانت عملية صناعة النماذج المناقضة ودعمها تجرى على قدم وساق لذلك نرى العقلاء وأصحاب الرؤية يرون العلاقة بين الإخوان وكل تيارات العنف فى المنطقة حيث كان يروج لنموذج الإخوان كنقيض للقاعدة والجهاديين والسلفيين وأن صعود الإخوان كفيل بالقضاء على كل تلك الأفكار المتطرفة وفى هذا الإطار يمكن فهم نموذج أبو بكر البغدادى فى مقابل نموذج أردوغان.. كذلك يمكن فى هذا الإطار فهم مواقف الدكتور البرادعى و باسم يوسف وعدد من شباب الثورة وبعض القوى السياسية والحزبية والوجوه التى ظهرت قبل وأثناء وبعد ثورة 25 يناير وصولا إلى محطة 30 يونيو أغلبية تلك المواقف طبيعية وتتسق مع مواقف ومبادىء صاحبها وعندما يفرض موقف أو حدث أو تصعيد أو تصريح أو تحرك أو إشاعة معروف لدى مدير حرب الجيل الرابع رد فعل الشخص ويقوم بتوظيفه ضمن مواقف أخرى وهكذا... عملية لامتناهية من المواقف و من الأفعال وردود الأفعال... عملية مدخلات ومخرجات لا تنتهى وتتصاعد وصولا إلى الهدف والغاية... الجميع أدوات فى تلك النوعية من الحروب دون أن يدرك أو يعى فى معظم الأحيان وما يفرض من مواقف وإشاعات وأحداث هو فقط لتعديل المسار؛ وهكذا وتحديدا تم التعامل مع شلالات الغضب فى ثورة 25 يناير الهادرة التى لم تجد داخليا من يمهد لها القنوات ويهذب خط سيرها غير هؤلاء الذين يديرون تلك النوعية من الحروب كى يسطوا على الثورة وآمال المصريين الذين نزلوا للشارع من أجل مطالب عادلة ويسلمونها بليل إلى الإخوان المسلمين وحلفائهم.. و فى مصر كانت هناك أجهزة ترصد هذا الصراع وتدرك أبعاده وتدير الحرب على اعتبار أنها الطرف الأخر فى تلك الحرب وأن الأدوات المتاحة للعدو هى نفسها تلك الأدوات التى يجب أن تعتمد عليها كى تجنب مصر ويلات تلك النوعية المدمرة من الحروب التى تهدف إلى التدمير الذاتى كما حدث فى العراق وسوريا وليبيا واليمن نتيجة غياب مؤسسة الجيش وأجهزة المخابرات وجمع المعلومات التى تدير الحرب المضادة... لذلك كانت 30 يونيو ومن قادها بتأييد شعبى أكبر سلاح مضاد أوقف تقدم العدو الأفتراضى وحجم كثيرا من تأثير أدواته وضبط إيقاع الشارع سياسيا وأمنيا... وبأنها قيادة تفرضها الظروف وهى الوحيدة القادرة فى تلك الظروف على الفهم والمواجهة بحكم خلفيتها الأمنية والعسكرية وأن أى من المرشحين الذين كانوا مطروحين على طاولة الترشيح لم يرقى تأهيله لإدارة مثل هذا النوع من الحروب إلى حين تعافى مؤسسات الدولة لتقوم بدورها منفردة دون وصاية من رئيس أو قائد مباشر.. المعركة لم تنته لأن حروب الجيل الرابع موجات متتالية تحتاج إلى يقظة ووحدة وعقل جمعى ولا أقصد تبعية أو فكر القطيع؛ ولكننى أرجو لمن يعرض لحرب الجيل الرابع وغيرها من الحروب الحديثة الرأفة بأستاذى فيليب تايلور فى قبره لأن ما يقدم لا علاقة له بما كان يدرسه ويبدع فيه... وكذلك كى لا نغيب عن حقيقة ما يدور على الأرض وندرك حقيقة ما نواجهه لأنك عندما تعرف تحدد بدقة أدوات المواجهة.. ولنبتعد عن نغمة التخوين لأنه للأسف فى معظم ما تم كان بناء على مواقف وردود أفعال طبيعية مبدئية فى معظمها جاهلة ولا تدرك طبيعة اللحظة وشابها إنتهازية سياسية ورغبة فى التسلق على أكتاف شعب مطحون مع وجود عناصر للأسف تدرك وتعرف أنه يتم توظيفها وتوظيف مواقفها وفى بعض الأحيان تتلقى المقابل المادى ولكن فى الغالب المواقف طبيعية ولكنها غير مؤهلة وغير جديرة بأن تتصدر أى مشهد... ولندرك جميعا أن أكبر سلاح فى ترسانة العدو هو مناخ العنف والفرقة والشائعات التى تقسم الصف الوطنى واستخدام جهل وسوء أداء وسائل الإعلام (مرئى ومسموع وقومى وخاص) فى الترويج لتلك الشائعات فى دوائر مفرغة من العبث تحت عنوان كبير: "غياب الوعى".