تمر اليوم الذكرى الحادية والأربعين لحرب أكتوبر 1973، التي سطرت ملحمة تاريخية تحكي نضال شعب أبى إلا تحرير أرضه من العدو الغادر الذي احتلها في غفلة من الزمن، والتي تمثل كما قال الرئيس الراحل أنور السادات، أكبر نصر عسكري للعرب منذ عدة قرون. يقول الكاتب جان كلود جيبوه في كتابه "الأيام المؤلفة في إسرائيل": "هل كان يتصور أنور السادات وهو يطلق في الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر دباباته وجنوده لعبور قناة السويس أنه أطلق قوة عاتية رهيبة من شأنها أن تغير هذا العالم؟ إن كل شيء من أوروبا إلى أمريكا ومن آسيا إلى أفريقيا لم يبق على حالته التي كان عليها منذ حرب يوم عيد الغفران، إلا أن هذا الانقلاب المروع فيما يتعلق بإسرائيل اتخذ شكل الزلزال المدمر، ذلك أن الحرب التي عصفت بها كانت قاسية عليها في ميادين القتال، ثم كانت أشد من ذلك دمارا على الناس هناك، فقد شهدوا مصرع حلم كبير تهاوى ورأوا بعد ذلك صورة معينة من إسرائيل وهي تزول إلى الأبد". إن الهدف من وراء حرب أكتوبر تمثل في ضرورة إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم التي فُرضت فرضا على منطقة الشرق الأوسط في ظل سياسة الوفاق بين أمريكا والاتحاد السوفيتي آنذاك، ورد كرامة الجيش المصري بعد العملية الغادرة التي شنها الطيران الإسرائيلي يوم 5 يونيو من عام 1967، وضرب السياسة الأمريكية القائمة على إمداد إسرائيل بأحدث أنواع السلاح بما يضمن لها تفوقا عسكريا على الجيوش العربية، وفي مقدمتها الجيش المصري. هدف آخر كان ضروريا لخوض الحرب هو كسر غطرسة إسرائيل المتمثلة في سياسة فرض الأمر الواقع وضم الأراضي العربية. لم أتشرف بمعاصرة حرب الكرامة، ولكني قرأت كل تفاصيلها وعرفت أنها بدأت في الثانية وخمس دقائق بعد ظهر يوم السادس من أكتوبر، فانطلقت أكثر من 220 طائرة إلى سيناءالمحتلة لتعبر قناة السويس في توقيت واحد، متجهة صوب أهدافها المحددة، وكان لكل تشكيل جوي أهدافه وسرعته وارتفاعه، ونُفذت ضربة جوية مركزة ورائعة حققت أقل خسائر ممكنة وأقل من الخسائر المتوقعة لها، حيث أصابت مواقع المعسكرات الإسرائيلية ومخازن الذخيرة ووحدات الدفاع الجوي الإسرائيلي، إصابات مباشرة، وعادت جميع الطائرات عدا طائرة واحدة استشهد قائدها وهو عاطف أخو الرئيس الراحل أنور السادات. ونجحت ضربة الطائرات نجاحا كاملا ومذهلا وفتحت أبواب النصر، حيث أربكت القوات الإسرائيلية بتحطيم مراكز القيادة والسيطرة، ومواقع التشويش الإلكتروني، والمطارات، كما دمرت عشرات المواقع لمدفعيات العدو ومواقع راداراته ومراكز التوجيه والإنذار، فضلا عن تدمير العديد من المناطق الإدارية للعدو والتجمعات العسكرية المهمة في سيناء. وأعلنت المدفعية المصرية على طول المواجهة كسر الصمت الرهيب الذي ساد الجبهة منذ أغسطس 1970، وتحول الشاطئ الشرقي للقناة إلى جحيم، وفوجئ العدو الإسرائيلي بأقوى تمهيد نيراني تم تنفيذه في الشرق الأوسط، وخلال التمهيد النيراني على مواقع العدو وقلاعه على الضفة الشرقية للقناة في الدقيقة الأولى من بدء الضربة المدفعية عشرة آلاف وخمسمائة دانة مدفعية، بمعدل 75 دانة في كل ثانية. وبدأت فرق المشاة وقوات قطاع بورسعيد العسكري في اقتحام قناة السويس مستخدمة حوالى ألف قارب اقتحام مطاط، و1500 سلم لتسلق خط بارليف، ووضع ثمانية آلاف جندي أقدامهم على الضفة الشرقية للقناة، وبدأوا في تسلق الساتر الترابي المرتفع واقتحام دفاعات العدو الحصينة، وبعد 8 ساعات من القتال تم فتح 60 ممرا في الساتر الترابي على القناة، وإنشاء 8 كباري ثقيلة وبناء 4 كباري خفيفة وبناء وتشغيل 30 معدية، وعادت أعلام مصر ترفرف من جديد على الضفة الشرقية للقناة. الرئيس السادات صدق على خطة الحرب يوم 1 أكتوبر، 5 من رمضان، بعد اجتماع له استمر 10 ساعات مع حوالى 20 ضابطا من كبار قيادات القوات المسلحة. وأنشأت القوات المصرية 5 رؤوس كباري في سيناء بواسطة 5 فرق مشاة، بعمق 6-8 كم، بعد 5 معارك ناجحة رُفعت بعدها الأعلام المصرية على أرض سيناء، وتحققت هذه الإنجازات بخسائر قليلة نسبية، وهي 2.5% من الطائرات، و2% من الدبابات، و3% من القوات البشرية الباسلة، بينما خسر العدو 25 طائرة و20 دبابة ومئات القتلى، بالإضافة إلى تحطيم خط بارليف. وفي يوم 7 أكتوبر تمكنت الفرقة 18 من السيطرة على مدينة القنطرة شرق تمهيدا لتحريرها الذي اكتمل في اليوم التالي، كما دارت معارك بحرية ضارية بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية، واستسلم عدد كبير منهم، وبدأت واشنطن الاتصال بالقاهرة على الصعيد الدبلوماسي، وكانت رسالة مصر واضحة، يمكن تلخيصها في ضرورة انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها، وبعد الانسحاب يمكن البدء في مفاوضات السلام وبحث القضايا العالقة. وفي يوم 8 أكتوبر حرر الجيش مدينة القنطرة شرق، وتم أسر 30 جنديا من العدو، وتم الاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة والمعدات، وذلك على يد الفرقة 18 الباسلة التابعة للجيش الثاني. وتمكنت الفرقة 19 التابعة للجيش الثالث من السيطرة على موقع عيون موسى، كما نجحت القوات المصرية في التصدي لضربة إسرائيلية مضادة قامت بها 3 فرق إسرائيلية فشلت جميعها وتراجعت وانسحبت شرقا بعد أن تكبدت خسائر فادحة. وأعاد الجيش الإسرائيلي تنظيم قواته وحاول التقدم بلواءين مدرعين ضد فرق قطاع شرق الإسماعيلية، تلك المعركة المعروفة باسم معركة الفردان، والتي نجح فيها الجيش المصري في التصدي لهذه الهجمة الصهيونية. ونجحت القوات المصرية والكفاح الشعبي في الدفاع عن بور سعيد التي حاولت إسرائيل الهجوم عليها خوفا من توجيه ضربات بصواريخ أرض أرض ضد المدن الإسرائيلية. وفي يوم 9 من أكتوبر تم تصفية جميع حصون العدو في سيناء، عدا حصن واحد في طريق بورسعيد - رمانه - العريش الساحلي. وانسحبت قوات العدو إلى خط المضايق في سيناء بعد سقوط خط الدفاع الأول وخط الدفاع الثاني، ودارت معركة بحرية عنيفة أسفرت عن إغراق 5 زوارق إسرائيلية كما تقدمت القوات المصرية 15 كيلومترا في عمق سيناء. وقامت قوات العدو بقصف دمشق للرد على فشلها المتوالي منذ 6 أكتوبر في الجبهة المصرية برغم تأكيد مصر أنها لن توسع نطاق الحرب إلى التجمعات السكنية الإسرائيلية. وتميز اليوم الخامس من القتال الموافق 10 من أكتوبر بعمليات مطاردة واسعة قام بها الجيش المصري في سيناء، وبلغت خسائر العدو خلال هذا اليوم تدمير 6 طائرات و3 دبابات و4 مدافع 105 مم، و6 مدافع ذاتية الحركة، و4 هاونات، كما استولت قواتنا على 12 دبابة معادية سليمة من طراز ( إم – 60 ) وسنتوريون و3 عربات مدرعة وعدد من الأسرى. وفي يوم 11 من أكتوبر اشتدت ضراوة المعارك في اليوم السادس للقتال، وشهدت جبهة سيناء معارك طاحنة بين الجانبين اشتركت فيها مئات الدبابات والمدرعات والمدفعية، وحاول العدو أن يدفع بالمزيد من طائراته لمهاجمة المطارات المصرية، فتصدت له المقاتلات والدفاع الجوي، وتم إسقاط 4 طائرات فانتوم وميراج، واستطاعت وحدات دفاعنا الجوي أن تسقط له 5 طائرات أخرى، وعندما حاول العدو مهاجمة مطار المنصورة أسقطنا له 11 طائرة أخرى. وفي يوم 12 من أكتوبر تركز القتال الشرس في محور الوسط، وتم تدمير 13 دبابة و19 عربة مدرعة من طابور إسرائيلي حاول وقف تقدم القوات المصرية، كما خسر العدو 15 طائرة خلال معارك هذا اليوم. وفي يوم 13 أكتوبر استمرت معارك الدبابات بسيناء، في الوقت الذي استطاعت فيه قوات الجيش المصري أن تعزز مواقعها المحررة، وأن تنشئ 11 معبرًا على طول القناة وعندما حاول العدو الإغارة بطائراته على قواتنا شرق القناة أسقطنا له 16 طائرة منها 3 طائرات هليكوبتر. وفي يوم 14 من أكتوبر بدأت قواتنا تطوير الهجوم شرقا، حيث تقدمت قواتنا بنجاح على طول المواجهة، وتمكنت قواتنا من تحرير المزيد من الأراضي، كما نجحت في تطويق 150 دبابة للعدو واستطاعت القوات الجوية أن تسقط 29 طائرة للعدو في الوقت الذي دارات فيه معارك جوية واسعة في شمال الدلتا دمر فيها للعدو 15 طائرة أخرى. وبدأت أحداث يوم 15 من أكتوبر بقتال شرس وعنيف للمدرعات في سيناء استمر طوال اليوم، وتم تدمير 7 دبابات و3 عربات مدرعة و20 عربة إدارية للعدو، كما تم إسقاط 9 طائرات. وفي يوم 16 من أكتوبر، وفي اليوم الحادي عشر من القتال، شهدت مسارح العمليات تصاعدا خطيرا في البر والبحر والجو، ففي مسرح العمليات البري تصدت قواتنا لهجوم إسرائيلي مدرع على المحور الأوسط استمر 6 ساعات، وانتهى بتدمير الجزء الأكبر من مدرعات العدو الذي انسحب بعد تكبده خسائر فادحة، وفي مسرح العمليات البحري دارت معارك بحرية شرسة في البحرين الأحمر والأبيض المتوسط شاركت فيه القوات الجوية. واستمر القتال هكذا حتى انتهت حرب أكتوبر المجيدة فعليا يوم 28 من أكتوبر، واجتمع الوفدان المصري والإسرائيلي في الساعة الواحدة والنصف لبدء المباحثات لتثبيت وقف إطلاق النار. بهذه الحرب قضت مصر على أسطورة الجيش الذي لا يقهر، باقتحامها قناة السويس أكبر مانع مائي واجتياحها لكامل نقاط خط بارليف، واستيلائها خلال ساعات قليلة على الضفة الشرقية لقناة السويس بكل نقاطها وحصونها، ثم إدارتها لقتال شرس في عمق الضفة الشرقية وعلى الضفة الغربية للقناة. رحم الله كل شهداء أكتوبر الذين سنظل مدينين لهم، بفضل صمودهم وتضحيتهم في سبيل عزة الوطن وكرامته. [email protected]