يكاد يكون هناك إجماع بين عموم الناس على أن الإعلام لم يقم بالدور المتوقع منه بعد الثورة، بل إنه أسهم فى التضليل والتحريض والإثارة.. وتتناول الانتقادات مؤسسات التليفزيون الرسمية والخاصة على حد سواء، وتتعرض للأداء الإعلامى فى مجمله، وفى الأسابيع الأخيرة شاعت عبارة «الانفلات الإعلامى» التى وازت بين تأثيره الهدام وتأثير الانفلات الأمنى، وتعرض الإعلام لاتهامات بالعمالة فى مجلس الشعب، ووصفه رئيس الحكومة بأنه «يعمل كأنه من أكبر دولة معادية لمصر»، ونالت منه تصريحات عديدة لأعضاء فى المجلس العسكرى.. كل هذا متوقع فى فترات التحول التى تشهدها الأمم، مثل الفترة التى مرت بها البلاد منذ ثورة 25 يناير، ولاتزال تمر بها حتى الآن، ومع الشوق الجارف إلى التغيير وطموحاته التى تصطدم بواقع عفن استمر عقودا من الزمن وتتلاطم بها رياح عاصفة آتية من الخارج، وفى حالة الارتباك والالتباس الناشئة عن هذا كله، ليس من المستغرب أن يفقد الإعلام بوصلته، كما أنه من المتوقع أن تعلق الإحباطات فى عنق الإعلام حتى إن كان غيره هو الجانى.. سواء كان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فالمهم أن ينظر الإعلاميون إلى أنفسهم فى المرآة، وأن يدركوا أن هناك خللا كبيرا يجب تداركه، وأن يشخصوا بدقة هذا الخلل، وأن يقرّوا بمسؤوليتهم عما يخصهم منه، وأن يبدأوا فى اتخاذ خطوات جادة للإصلاح، ويستنهضوا المجتمع كله لمشاركتهم فى حوار وطنى عام لإنجاز هذه المهمة.. الخلل فى رأيى يتركز فى أن الإعلام الرسمى بوق للحكومة وليس صوتا للشعب، وفى أن الإعلام الخاص خاضع لسيطرة رأس المال، وفى أن كليهما لا يمكنه الإفلات من قمع السلطة وتدخل أجهزة الأمن وكذلك من نفوذ الإعلان، وفى أن الممارسات المهنية انهارت إلى حد يبعث على كثير من القلق، وفى أن القوانين المنظمة للإعلام تحتاج برمتها إلى مراجعة، وفى أن هناك وزارة للإعلام حان الوقت لإلغائها.. لب القضية هو الحرية، والقصد من التصدى لها هو المطلب القديم المتجدد على الدوام.. تحرير الإعلام، وهو مطلب لن يتحقق سوى بوضع نظام حاكم للإعلام بشقيه المطبوع والإذاعى، والإعلام الإلكترونى أيضا.. فى شق المطبوع هناك تقاليد ترسخت عبر قرابة قرنين من الزمن، وهيئات لها ثقلها مثل نقابة الصحفيين، وتاريخ نضال ممتد، ومع ذلك فهناك الآن حاجة إلى قانون جديد للصحافة يلغى القيود فى قانون الصحافة القائم وفى غيره من القوانين، وهناك سؤال كبير حول مصير المؤسسات الصحفية القومية الثمانى ليست له إجابة شافية، ما بين من ينادى بضرورة بقائها، ومن ينادى بخصخصتها، ومن ينادى بتمليكها لمحرريها أو بطرحها للاكتتاب العام.. فى الشق الإذاعى الطريق إلى الحل أوضح رغم أن المشكلات قد تكون أكثر تعقيدا.. الطريق يجب أن يبدأ بقيام هيئة وطنية مستقلة تشرف على الإعلام المسموع والمرئى بعيدا عن سيطرة السلطة، وتهدف إلى ازدهار صناعة الإعلام، وتنظيم عمله وضبطه (إصدار تراخيص القنوات ووضع قواعد الممارسة مثلا)، وحماية مصالح الجمهور بتلقى شكاواه والتحقيق فيها والعمل على تصحيحها، وتحديد أسس المنافسة، والارتقاء بالأداء المهنى.. تعنى هذه الهيئة بالسياسات العامة للإعلام الرسمى والإعلام الخاص، وهى مطالبة فى المقام الأول بوضع أسس لنظم الإعلام الخاص الذى لا تكاد توجد له قواعد حتى الآن، وبالذات فى مجال الملكية، بحيث تدقق فى مصادر التمويل، التى كثيرا ما تكون مجهولة، وتحد من الاحتكار، وتشرك الإعلاميين فى وضع السياسات.. أما الإعلام الإذاعى الرسمى فهو يتمثل الآن فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون، الذى أصبح إمبراطورية مثقلة ب27 قناة تليفزيونية و13 شبكة إذاعية، ومثقلة بأكثر من 40 ألفاً من العاملين تدنت بينهم معايير الكفاءة وتفشت الوساطة والبطالة المقنعة والفوضى والفساد (وإن كان عديد منهم يقاوم ويؤدى أداء مميزا فى الفترة الأخيرة)، ومثقلة بديون بلغت 13 مليار جنيه.. الاتحاد يجب أن يدار كهيئة مستقلة تتبع الدولة ولا تتبع الحكومة، وهو الغرض الذى كان مقصودا من إنشائه عندما تولى الأستاذ محمد حسنين هيكل وزارة الإعلام فى 1970، لكنه خضع لسلطة وزير الإعلام فيما بعد.. وهكذا فمن الضرورى الآن أن تعاد هيكلته، بحيث يتولى إدارته مجلس يمثل الشعب، وأن تأتى موارده من رسوم اشتراكات (أو رسوم رخص حيازة أجهزة الاستقبال كما كان عليه الحال عند افتتاح التليفزيون فى 1960) وليس من ميزانية الحكومة، وأن تتقلص قنواته، وأن يخفض عدد العاملين فيه تخفيضا جذريا متدرجا تراعى فيه الاعتبارات الإنسانية.. كل ذلك يستدعى سن قوانين جديدة، وقد قدمت الحكومة بالفعل إلى مجلس الشعب مشروع قانون لتنظيم البث المسموع والمرئى، وبدأ مجلس الشعب فى دراسته من خلال لجنة الثقافة والإعلام، كما بدأ فى تنظيم جلسات استماع للمعنيين من أبناء المهنة وغيرهم.. ورغم القلق الذى أثارته تصريحات هوجاء لبعض نواب التيار الإسلامى فى البرلمان حول حرية الإبداع مؤخرا، فالمؤكد أن الأغلبية الممثلة فى نواب الإخوان المسلمين ستؤيد مطالب الإعلاميين ومقترحاتهم فى هذا الشأن، ودلالات ذلك واضحة فى برنامج حزب الحرية والعدالة من ناحية، وفى تصريحات نوابه الأعضاء فى اللجنة من ناحية أخرى (أما سياسة الحزب بشأن مصير الصحافة القومية فهى لاتزال قيد البحث حتى الآن).. هناك حاجة أيضا إلى قانون جديد لحرية تداول المعلومات، وقانون يخص الإعلام الإلكترونى.. لكن الواجب الأكثر إلحاحا الآن هو تضمين الدستور المواد التى تكفل حرية التعبير والحريات الإعلامية.. اهتم الصحفيون بهذا الأمر ووضعوا بالفعل مشروعا لهذه المواد، أما الإذاعيون فقد دخلوا هذا المعترك مؤخرا، وفى الأسبوع الماضى فقط أعلن عدد منهم «المبادرة المصرية لتطوير الإعلام» وهدفها أن يسهم أهل المهنة أنفسهم فى وضع مشروعات القوانين الخاصة بها، وأن يقوموا بدعم المشروعات السابقة لقيام نقابة للإذاعيين (المجال الآن مفتوح لقيام النقابات المستقلة)، وتوفير الحماية للإعلاميين، وضمان حماية مستهلكى الإعلام، أى المشاهدين والمستمعين، من الانفلاتات الإعلامية، والارتقاء بالأداء الإعلامى.. وقد شرفت بانتخابى أمينا عاما لهذه المبادرة ضمن مجموعة مؤسسة من أبرز الزملاء وأخلصهم.. نحن لسنا نقابة، ولا نتطلع للقيام بدورها، ولسنا حركة تعمل بالسياسة ونحرص على ألاّ ننغمس فى متاهاتها.. نحن لسنا كل الإذاعيين ولا ندعى أننا نمثل مجموع أهل المهنة.. نحن نستلهم آمال الجماعة الإعلامية، ونزعم أننا نستلهم طموحاتها.. نحن فريق دراسة، ومجموعة ضغط ودعوة، نعتقد أن ما لدينا من رصيد وعزم وخبرة وشعور بالمسؤولية يؤهلنا لاستكشاف الطريق الصحيح الذى يحقق للمهنة الحرية ويلزمها بالمسؤولية، ويحقق قبل هذا وذاك للأمة الإعلام الذى تستحقه وتنشده بعد 25 يناير.. نقلا عن المصري اليوم